سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا"

بقلم: بدر محمد بدر

سيظل الإمام الشهيد حسن البنا نبعاً فياضاً, وكنزا ثميناً, مهما طالت الأزمان واختلفت الأمكنة, يتأمل في حياته الباحثون, ويتعمق في نظراته الدارسون, ويناقش منهجه العارفون.. 
لقد نجح هذا الرجل العظيم في إحداث التغيير الإيجابي, الذي كانت الأمة الإسلامية في أشد الاحتياج إليه, على أساس من الفهم الشامل للإسلام, والمنهج الوسطي الرشيد, ولا يزال هذا التغيير مؤثراً في حياة الأمة. 
وبالرغم من استشهاده قبل أربعا وستين عاما, لاتزال دعوته ملء السمع والبصر, ولا تزال جماعته الأكثر حضوراً في الساحات: السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية في كل بلاد المسلمين, ولا يزال منهجه يقرب الناس من دينهم, ويردهم إلى مقاعد المجد الأولى. 
وفي ذكرى استشهاد الإمام المجدد حسن البنا, أحببت أن أشارك بهذه السطور, عسى أن يكتبني الله في زمرة السائرين على منهجه.. منهج الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.

ميلاده
ولد حسن أحمد عبد الرحمن البنا في أسرة ريفية بسيطة, بساطة أبناء الريف المصري, كانت تعمل بالزراعة في قرية " شمشيرة" وهي إحدى قرى دلتا نهر النيل, وتقع بالقرب من مدينة رشيد (محافظة البحيرة), وتطل على نهر النيل في مواجهة بلدة "إدفينا" الأكثر شهرة, وكانت "شمشيرة" تتبع مركز فوة, أحد مراكز محافظة "كفر الشيخ" حالياً, وكان جد حسن البنا ـ رحمه الله ـ فلاحاً من صغار الملاك بالقرية, معروفاً بين الناس بالصلاح والتقوى وحب الخير. 
نشأ الابن الأصغر "أحمد عبد الرحمن" ـ والد حسن البنا ـ بعيداً عن حرفة والده (الزراعة) والتحق بكُتاب القرية القرآن الكريم, كعادة أبناء الريف, ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة الإسكندرية ليدرس العلوم الشرعية المتخصصة, حيث التحق بجامع القائد "إبراهيم باشا" ـ وهو في الإسكندرية في ذلك الوقت, كالأزهر الشريف في القاهرة ـ في دراسة علوم الدين والشريعة والفقه واللغة العربية, وفي أثناء الدراسة بحث الشيخ "أحمد" عن وسيلة لكسب الرزق ليستعين بها على استكمال دراسته, ويخفف من عبئه المادي على والده, حتى التحق بأحد أكبر المحلات المتخصصة في إصلاح وبيع الساعات في مدينة الإسكندرية, وسرعان ما أتقن الصنعة وبرع فيها, حتى أصبحت بعد ذلك حرفته في الحياة, التي يرزقه الله من خلالها, ومن هنا جاءت شهرته بـ "الساعاتي" وبعد أن انتهت رحلته في طلب العلم, عاد الشيخ أحمد عبد الرحمن من الإسكندرية إلى قريته "شمشيرة" عالماً وفقيهاً وواعظاً, وخبيراً كذلك في صيانة وإصلاح الساعات, ثم تزوج من ابنة أحد كبار تجار المواشي بالقرية , وبعد أن تزوج, فكر في أن يغير من طريقة حياته وظروفه وأحواله, فعزم على الرحيل, وانتقل ـ ومعه والده وزوجته ـ إلى قرية "المحمودية" وافتتح فيها محلاً لصيانة وإصلاح وتجارة الساعات, بعد أن تنازل لشقيقه الأكبر "محمد" عن حصته في الأرض الزراعية, التي تركها له الوالد, ولم يتوقف عن تحصيل ونشر العلم الشرعي. 
وفي العام نفسه الذي انتقل فيه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا, إلى قرية "المحمودية", التي تحولت الآن إلى مدينة تتبع محافظة البحيرة شمال الدلتا, ولد ابنة الأكبر "حسن" في يوم الأحد 25 من شهر شعبان عام 1324 هـ ـ الموافق 14 من شهر أكتوبر عام 1906, فسعد به الشيخ أحمد أيما سعادة, كما سعد به الزمان وأمة الإسلام, وأذن في أذنه اليمنى, وأقام الصلاة في أذنه اليسرى عملاً بالسنة النبوية الشريفة, ليكون أول ما يسمعه المولود: الأذان والإقامة وشهادة التوحيد. 
استقر الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا في القرية, وكان يخطب الجمعة ويؤم المصلين في المساجد, ويصلح بين المتخاصمين والمتنازعين, وتم اختياره مأذوناً شرعياً, وظل يعمل بالمأذونية حتى بعد أن انتقل إلى القاهرة مع نجله الأكبر "حسن" عندما التحق بمدرسة دار العلوم (كلية دار العلوم الآن), مأذوناً شرعياً لمنطقة "الصليبية" بحي السيدة زينب, أحد أحياء القاهرة القديمة. 
اشتغل الشيخ أحمد بعلوم الحديث, وبرع فيها, حيث اتجه إلى مسانيد الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي واحمد بن حنبل, يرتبها ويعيد تبويبها ويعلق عليها ويشرحها بأسلوب عصري جذاب, وقد أنجز منها : "بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن" و"الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني" مع مختصر شرحه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني".. ويعتبر "الفتح الرباني" هو المشروع الأكبر في حياة الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا العلمية, إذ أمضى في تأليفه مدة 38 عاماً متواصلة, حيث بدأ فيه عام 1340هـ حتى وافاه الأجل عام 1378هـ, وهو في منتصف الجزء الثاني والعشرين, ولم يبق منه إلا الجزءان: الثالث والعشرون والرابع والعشرون. 
ولا عجب .. فمسند الإمام أحمد بن حنبل, هو أكبر مدونات الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث اشتمل على ما يقرب من ثلاثين ألف حديث شريف, واستعصى ترتيبه وشرحه على أعلام علماء المسلمين, طوال ما يقرب عن عشرة قرون كاملة, حتى قيض الله له الشيخ أحمد فاجتهد وثابر من أجل إنجاز ترتيبه وشرحه, والتدقيق في ذلك دقته في إصلاح الساعات وضبطها.. تقبل الله منه.

تربية إيمانية 
لقد حرص العالم والفقيه الشيخ أحمد على تربية أبنائه, تربية إيمانية علمية صالحة, حتى أنه جعل كل واحد من أبنائه يدرس العلم الشرعي على يديه, ويتفقه على أحد المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة, فكان المذهب "الحنفي" من نصيب الابن الأكبر "حسن", والمذهب "المالكي" من نصيب الابن الثاني "عبد الرحمن" والمذهب "الحنبلي" من نصيب الابن الثالث "محمد", أما المذهب "الشافعي" فكان من نصيب الابن الأصغر "جمال الدين"، وهو الأستاذ جمال البنا الكاتب المعروف الآن بكثرة مشاغباته الفكرية والفقهية. 
ولعل الشيخ أحمد والد حسن البنا كان يهدف من وراء هذا الأسلوب في التربية إلى تنشئة أبنائه على اتساع المدارك, وعمق النظرة الفقهية, والتبحر في علوم الدين والفقه, فتحقق له ذلك بالفعل, فكان إذا عرضت له قضية فقهية, جمع الرجل أبناءه, ليعرف آراء المذاهب الأربعة فيها, ولم يمنعه هذا الحرص على تدريس العلم الشرعي لأبنائه, من أن يرسلهم إلى المدارس الرسمية ليتلقوا التعليم المدني, ويحصلوا على الشهادات الدراسية المختلفة.