بموازاة الخسائر العسكرية التي مُني بها تنظيم داعش ولا يزال على الأرض، بدءاً من خسارته لمدينة سرت الليبية في كانون الأول/ديسمبر 2016، والرمادي في شباط/فبراير 2016، والموصل، ثاني مدن العراق، في تموز/يوليو 2017، وصولا إلى تقهقره في معقله بمدينة الرقة شمال سوريا، إلى جانب مقتل العشرات من قياداته وأسر وفرار المئات من مقاتليه، خسر داعش على ما يبدو معركته الإعلامية، التي وفر لها التنظيم طاقات كبيرة سواء مالية أو بشرية، منذ أن صعد البغدادي على منبر الجامع الكبير بالموصل 2014، ليعلن عن تعيينه رئيس ما يسمى بـ "الدولة الإسلامية"، مبتكراً منافذه الإعلامية ومؤسساته الترويجية، إضافة إلى مناصريه الإلكترونيين المنتشرين حول العالم.

وذلك كله بهدف تضخيم حضوره على الأرض وبث خطابه الأيديولوجي الدعائي، مصدرا مقاطع وأفلاما ذات جودة تقنية عالية، لإيصال رسائله الوحشية والدموية للغرب والشرق عبر "ذباحيه". وذلك قبل أن تشتد الحملة الدولية في محاربة الدعاية "الداعشية"، بالضغط أكثر على مواقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، و"فيسبوك"، و "انستغرام"، و"يوتيوب"، وغيرها.

ولعل دعوة "الخليفة" البغدادي مقاتليه في التسجيل الأخير المنسوب إليه، إلى استهداف المؤسسات الإعلامية، تشكل برهاناً ساطعاً على تهشم "بروباغندا" التنظيم. إذ قال في التسجيل الأخير:" اثبتوا يا جنود الإسلام وأنصار الخلافة في كل مكان كثفوا الضربات تلو الضربات واجعلوا مراكز إعلام أهل الكفر ودور حربهم الفكرية ضمن الأهداف".

وأتى تهديد البغدادي بعد تهاوي ماكينته الإعلامية، منذ انطلاق عمليات تحرير المدن والمواقع الخاضعة لسيطرته، خصوصا مع بدء عمليات تحرير الجانب الأيمن من الموصل، ليشتد وقع الأمر ويصبح أكثر إيلاما مع حرص وسائل إعلام عالمية (غربية وعربية)، على تغطية جوانب من هذه المعارك، فكان ما ذكره أحد مناصري داعش الإلكترونيين والمسمى "دراغنوف الدولة" قائلا: "ما يصدر من بيانات واشتباكات داخل الموصل هي أكاذيب، وكل قنوات الأخبار لم تعرف ما يجري داخلها، أما مراسلوها في أطرافها فاكتفوا برؤية لهيب المفخخات".

وما هي إلا أشهر معدودة حتى بدأت صورة دولة البغدادي، تتهاوى، مع نجاح عمليات "البنيان المرصوص" لتحرير مدينة سرت، وانتصارات قوات الجيش العراقي مدعومة بضربات التحالف الجوية، في تحرير معاقل داعش، حيث بدأت طواقم الإعلام ومراسلوها بالتجول فيما كان يسمى عاصمة الخلافة وولاياتها واقفين على أنقضاها. فعرضت الشاشات فرحة المحررين من سطوة التنظيم، ومن احتجزوا كدروع بشرية أثناء احتدام المواجهات، وعشرات اللقاءات مع نسوة داعش من كتيبة الخنساء والحسبة، وما يسمى بـ "أشبال الخلافة".
"إعلام داعش ومنصاته"
يذكر أن تنظيم داعش كان قد ضاعف من قدرات جهازه الإعلامي، مقارنةً بالتنظيم الأم "القاعدة"، مبتكرا منصاته ووسائله الإعلامية، منها مؤسسة الاعتصام التي استحدثها التنظيم مع إعلان تمدده في سوريا، ومؤسسة الحياة، إضافة إلى مجلة دابق "الشهرية" والتي تتولى إصدار منتجاته المرئية باللغات الأجنبية والعربية، باستخدام رهائن وأسرى أجانب، التي صدر عددها الأول في يوليو 2014م. وهي تصدر باللغتين العربية والإنجليزية.

كذلك كانت إذاعة البيان التي تبث عبر الموجات القصيرة وعبر الإنترنت من مدينة الموصل العراقية ولها أبراج في الرقة بسوريا، ومجلة رومية الإلكترونية التي أنشأت بعد وفاة أبو محمد العدناني، المتحدث باسم التنظيم، ومجلة دار الإسلام التي تصدر باللغة الفرنسية، ومؤسسة أجناد للإنتاج الإعلامي التي تم إنشاؤها في مايو 2014، والتي تتخصص بإنتاج الكتب ومقاطع الفيديو والأناشيد، باللغات الأجنبية (الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، والروسية). ويصدر هذا المركز مجلة دابق بالإنجليزية، ومجلة دار الإسلام بالفرنسية، ومجلة القسطنطينية بالتركية، ومجلة مصدر بالروسية.

وتعد وكالة أعماق الإخبارية، بمثابة وكالة الأنباء الرسمية للتنظيم، التي كان أول ظهور لها في أغسطس 2014 م، ومهمتها نشر أخبار التنظيم السياسية والعسكرية على مدار الساعة، وبثّ تسجيلات مصورة لمعاركه وما يتعلق بها، كما ولها تطبيق خاص يمكن تنزيله من "متجر غوغل" على أجهزة أندرويد، بالإضافة الى مكاتب إعلامية فيما يعرف بالولايات الخاضعة لسيطرة التنظيم، وشبكة مناصري تنظيم الدولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

يبقى أن معارك التنظيمات المتطرفة مع وسائل الإعلام وتهديداته ليست بالأمر المستحدث أو الجديد، فلطالما كانت طائفة الإعلاميين من ضحاياه وعلى قوائم القتل والاغتيال الخاصة به.

إلا أن ما برز في تهديد "البغدادي" من حثه على استهداف ما وصفه بـ"دور حربهم الفكرية"، يضيء على حجم الهزيمة "المعنوية" التي مني بها التنظيم، لاسيما بعد تبخر شعاراته التي عمد على ضخها طوال ما يقارب الخمسة أعوام.

ولعل هذا ما دفع البغدادي في تسجيله إلى استجداء ما كانت بالأمس حواضنه قائلًا: "فإياكم أن يؤثر عليكم الإعلام المخادع، ولن تجدونا إن شاء الله إلا أرحم الناس بكم وأشهد على أعدائكم، فهذه حقيقتنا.. وإننا سعينا بكل صدق واخلاص لنحمي المسلمين نذود عن أعراضهم نصون دماءهم".

"حرب داعش الفكرية وقلقه الأكبر"

تطرق البغدادي إلى الحرب الفكرية يجسد في واقع الأمر تعبيرا عن قلق أكبر من قبل دعاة مشروع " الدولة الإسلامية"، و"الخلافة"، في ظل مشهد عربي وغربي جديد، انطلق مع تدشين المركز العالمي "اعتدال"، في العاصمة السعودية، لمحاربة الفكر المتطرف وذلك في 21 مايو 2017، وقبله كانت المبادرات الفكرية التي يقودها التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب وأيديولوجيا التطرف عبر مركز الحرب الفكرية، والذي أسسته وزارة الدفاع السعودية في 1 مايو 2017.

هذا المشروع لا يمكن أن ننظر اليه بمعزل عما يسمى بـ "الربيع العربي" الإسلاموي الذي استنهضته ذات منطلقات "خلافة" البغدادي ودولته، عبر تيارات الإسلام السياسي (السني والخميني)، إذ لا يعدو عن كونه سوى أولى بشائر تحقيق حلم "الدولة الاسلامية والحكم الاسلامي الجامع"، الممهد لظهور الخلافة الاسلامية، وتحقيق الأمة الواحدة، فليس مشروع البغدادي سوى الذراع المسلحة والجناح اليميني للربيع العربي، كان من بين تجليات ذلك حركة "حسم" المتطرفة في مصر التابعة لجماعة الاخوان المسلمين.

تتضح الرؤية أكثر مع ما ذكره المحلل الأردني الدائم على شاشة قناة الجزيرة القطرية د.حسن أبو هنية، الخبير في الجماعات الاسلامية، في حلقة تناولت الاستراتيجية الاعلامية لتنظيم داعش، قائلا: "التنظيم تفوق درجات على جميع الجماعات بتوظيفه السبب في ظهوره والمتعلق بالشرط الموضوعي، إن ما حدث في المنطقة العربية من انقلاب على الثورات العربية ووجود ثقافة إسلامية عامة كانت تنادي بما يطلق عليه بالإسلام السياسي الذي كان ينادي بالمشاركة السياسية ويدعو إلى التغيير السلمي، عندما تم التنكيل به كما حدث في لبيبا ومصر واليمن وجميع المناطق في سوريا، أعتقد تهميش هذه المكونات السنية المعتدلة أدت إلى بروز ايدلوجيا هذا التنظيم واستطاع أن يقدم رسالته بأن السلمية لا يمكن أن تنجح مع نظم عسكرية سلطوية في المنطقة، وهذا ما جعل الشباب يندفع إلى التنظيم". ويتابع قائلاً: "يستطيع التنظيم أن يبني سردية نضالية جهادية تستند على نوع من المظلومية، بمعنى أن هناك قضايا عادلة في المنطقة تمكن التنظيم من اللعب عليها، قضية الطائفية – السنة – الشيعة- الانقسام، استطاع أن يقول إن كل هذه الحركات التي تدعو إلى السلمية لا يمكن أن تفلح بالقضاء عليها بل إن هذا ساهم في انتشار كل النظم السلطوية العسكرية وكذلك الطائفية وإيران وميليشياتها الشيعية".

"تجليات مشروع الربيع العربي"

وفي إشارة إلى ما سبق، كان أولى تجليات انطلاق مشروع الربيع العربي في بلاد الكنانة والشام، وأرض الفرات والمغرب العربي، (وفقا للتسميات الراديكالية لها)، إطلاق "الجهاديين" ومنظري الجماعات الإسلاموية، من الطائفتين السنية والشيعية، من السجون بعفو عام شامل، ولم يقتصر الأمر حينها الأمر على سياحتها الجهادية في المنطقة، وإنما بلغ مشاركة عدد منهم في الحياة السياسية، كان من ذلك على سبيل المثال حضور عبود الزمر الذي أفرج عنه الرئيس المصري محمد مرسي قبل عزله، وهو المتهم بالمشاركة في اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات الاحتفالات الرسمية بذكر نصر أكتوبر، إلى جانبه صفوت عبدالغني المتهم بقتل فرج فودة ورفعت محجوب وقيادات أخرى من الجماعة الإسلامية كعلاء أبو النصر، إضافة إلى ذلك كله كان تعيين عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية "صفوت أحمد عبد الغني" والذي حكم عليه بالسجن في قضية اغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت محجوب في 1990، "مسؤول الجناح العسكري في الجماعة الإسلامية"، عضواً بمجلس الشورى المصري.

كما قام الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، بالعفو عن 55 من سجناء "الجماعة الإسلامية"، و"الجهاد" من القيادات، من بينهم أربعة صدر بحقهم أحكام بالإعدام في قضايا مختلفة وهم: غريب الشحات، وشعبان هريدي، وحسن خليفة، وأحمد عبد القادر، وهم من أعضاء "الجماعة الإسلامية"، بالإضافة إلى أحمد سلامة مبروك، القيادي الجهادي البارز، فضلا عن شخصيات أخرى تتراوح الأحكام الصادرة بحقهم ما بين المؤبد و25 عاما.

الجدير بالذكر أن عدداً ممن أفرج عنهم كانوا قد انضموا إلى صفوف "داعش" و"جبهة النصرة" وقتل بعضهم في سوريا والعراق وليبيا، في حين لا يزال عدد آخر منهم "يسوح". وقد قدر عددهم حينها بـ300 مصري.

وتبلورت تلك الحركة باتجاه الانضمام للقتال أكثر خلال إعلان مرسي النفير العام في 2013 ، ضمن مؤتمر "الأمة المصرية لدعم الثورة السورية"، حيث دعا اثنان من الشيوخ المصريين إلى التوجه إلى سوريا للجهاد، وقال مرسي: "هذا يوم النصرة، لن يهنأ لنا بال حتى نرى السوريين الأحرار يقيمون دولتهم الموحدة على كامل ترابهم".

"كونفدرالية جهادية"

ويبقى أن تكوين كونفدرالية واتحاد عالمي للمنظمات والأحزاب "الجهادية"، كان أحد أركان مشروع #الربيع_العربي ، وهو ما سبق أن أفصح عنه الداعية الهندي سلمان الندوي، الضيف الدائم ليوسف #القرضاوي ، والذي كان أول المبادرين إلى تهنئة أبو بكر #البغدادي بإعلان دولته الإسلامية، داعياً في رسالة مفتوحة وجهها إلى الحكومة #السعودية في 2014 إلى تكوين: "اتحاد عالمي للمنظمات و #الأحزاب_الجهادية، ويفتح لهم باب الحوار والمذاكرة تحت إشراف العلماء، حتى يتحاشوا الإفراط والتفريط، ويظهر لهم المنهج الإسلامي والتصور الصحيح المتزن للجهاد.

وتابع مشدداً على أنه: "لا ينبغي أن يلصق بهم تهمة الإرهاب أو المخالفة والمعاداة، ولا يجوز أن يعتقل الشباب الأبرياء بجريمة العلاقة بهم أو الانتماء إليهم أو تملأ السجون والمعتقلات على تقارير المخابرات فحسب".

وهنا تجدر الإشارة إلى أن التنظيمات الراديكالية وتيارات الإسلام السياسي تدرك جيداً أن التحولات الإقليمية في المنطقة، وعلى رأسها مقاطعة الدول الأربعة لقطر، وتضامن المجتمع الدولي مع الموقف السعودي في محاصرة الأيدلوجيا المتطرفة وداعميها، جعلت التحدي الجديد والأخطر هو المواجهة والحرب الفكرية، ولا بأس في سبيل تلك الحرب أن يقتل "العقل الإلكتروني" لداعش، أو وزير إعلامه أبو محمد الفرقان، أو "صياد اللقطات ومبدع الإصدارات"، وهي التسمية التي أطلقها التنظيم على "أبو مارية العراقي"، القائد الإعلامي لمذبحة "سبايكر".

وهنا يعتقد التنظيم كما غيره من الجماعات الإرهابية أن "لا خوف على نفاد ذخيرته من الشباب طالما أن الأيدلوجيا يقظة ومتوثبة"!.