
غلق الأبواب أمام القانون – إسرائيل في مفترق طرق
بقلم: محمد دراوشة
في التاسع من أكتوبر 2023، وبينما كانت إسرائيل والعالم لا يزالان تحت وقع الصدمة من هجوم حماس، خرج الصحفي الأمريكي البارز توماس فريدمان بتصريح مثير للجدل عبر CNN، حمّل فيه وزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين المسؤولية الأولى عمّا حدث. بدا كلامه حينها غريبًا، بل مستفزًا: كيف يمكن لسياسي باهت مثل ليفين، يفتقر للكاريزما، أن يكون "المذنب الأول"؟ لكن الأحداث اللاحقة أثبتت أن فريدمان لم يكن بعيدًا عن الحقيقة.
ما فعله ليفين هذا الأسبوع – من محاولة إقصاء المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهراف-ميارا، إلى تغيير أقفال مكتبها في تل أبيب – ليس مجرد تصرف طفولي، بل خطوة رمزية تعكس انهيار احترام القانون من طرفه. المكتب ليس ملكًا خاصًا للوزير، بل مساحة عامة مخصصة لمن يشغلون مناصب رسمية. البيان الرسمي الصادر عن مكتب الوزير، والذي وصف محاولة المستشارة باستخدام المكتب بأنها "غير مرخّصة"، يعكس منطقًا جديدًا في التعامل مع المؤسسات: منطق السيطرة المطلقة. هذا النهج لا يهدد فقط موقع المستشارة، بل يهدد فكرة الحوكمة نفسها.
رفضه الاعتراف بلقبها الرسمي والاكتفاء بوصفها بـ"المحامية" هو محاولة متعمدة لتقويض شرعيتها. ورغم أن المحكمة العليا أصدرت أمرًا مؤقتًا يمنع إقالتها، تجاهل ليفين القرار، في سابقة خطيرة تهدد مبدأ سيادة القانون. في أي دولة قانون، كان هذا التصرف سيؤدي إلى مساءلة فورية. لكن في إسرائيل اليوم، يبدو أن القانون بات خاضعًا لمزاج السياسيين، لا لسلطة القضاء.
في موازاة ذلك، يتصاعد التوتر بين رئيس الأركان أيال زمير ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إسرائيل كاتس. الأخير أطلق تصريحًا مثيرًا للجدل: "بعد أحداث السابع من أكتوبر، لم يعد هناك جيش خارج الرقابة". وكأن الجيش كان يعمل بلا إشراف حتى الآن. كاتس، الذي يفاخر بجودة التعيينات التي أقرها، يهاجم في الوقت نفسه رئيس الأركان الذي عيّنه هو بنفسه. تناقض صارخ يكشف عن أزمة قيادة، لا أزمة أمن فقط. بل إن تصريحاته الأخيرة توحي بأن الجيش بات أداة سياسية، لا مؤسسة وطنية مستقلة.
ما يحدث ليس مجرد خلافات سياسية، بل تفكيك ممنهج لمؤسسات الدولة. عندما يتجاهل وزير العدل قرارات المحكمة، وتُقصى المستشارة القانونية بطرق ملتوية، ويُهاجم الجيش من داخل الحكومة – فإن إسرائيل تقترب من نقطة اللاعودة. الرسائل التي تصدر عن الحكومة، والتي تشبه منشورات هستيرية على وسائل التواصل، تعكس حالة من الفوضى السياسية. لم يعد هناك احترام للمناصب، ولا للحدود بين السلطات. كل شيء بات قابلًا للتسييس، حتى القضاء والجيش. هذا التآكل التدريجي في الفصل بين السلطات هو ما يحوّل الديمقراطية الهشة أصلا إلى واجهة شكلية، لا أكثر.
لا يمكن تجاهل ما يجري داخل إسرائيل، خاصة حين يتعلق الأمر بتفكيك مؤسسات الدولة وتراجع سلطة القانون. فهل ما نشهده اليوم هو مجرد أزمة داخلية؟ أم أن انعكاساتها ستمتد إلى المنطقة بأسرها؟ وهل يمكن للعالم العربي أن يرى في هذا التحول فرصة لإعادة التفكير في العلاقة مع إسرائيل، ليس فقط من منظور سياسي، بل من منظور أخلاقي ومؤسساتي؟
هل يمكن أن يكون هذا الانحدار المؤسسي بداية لتغيير في موازين القوى؟ وهل سيؤدي إلى مراجعة داخلية في إسرائيل نفسها، تفتح الباب أمام أصوات أكثر عقلانية واعتدالًا؟ أم أن ما نراه هو ترسيخ لنمط سلطوي، سيجعل من أي حوار مستقبلي أكثر تعقيدًا وأقل جدوى؟
من حق المواطن العربي أن يتساءل: إذا كانت إسرائيل، التي لطالما تباهت بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، تغلق أبواب القانون وتفتح أبواب الفوضى، فهل ما زالت تشكل نموذجًا يُحتذى به؟ أم أن الوقت قد حان لإعادة تعريف المفاهيم، وتثبيت معايير جديدة للعلاقات الإقليمية، تقوم على احترام القانون، لا على القوة وحدها؟
اضف تعقيب