يليقُ بمدينة طبريا الفلسطينية وصفها بـ"جنة الله على الأرض"، تلمَعُ عيون اللاجئين من طبريا وهم يصفونها بقطعة من الجنة، بهيةٌ رائعةُ الجمال، وحينَ احتُلَّت طبريا، بدَت للناظرين عروساً تستحمُ في البحيرة، تتماوجُ مع البحرِ لتتجلَّى كحوريةٍ ما مثلها أحد. إنها أكثرُ مِن ذلك، كما يصفها الطبرانيون المهجرون، وهم لا يزالون يبكون غيابها الحاضِر في قلوبهم، ويلومون أنفسهم لأنَّهم، في ليلةٍ صيفيةٍ قاسية الملامِح، أُجبروا على تركها حتى استباحها الاحتلال في ليلة التاسع عشر من نيسان 1948، لتسقُط أولُ المدنِ الفلسطينية، مُضرَّجة بالدماء.
عائلة الطبري
بينَ الذين نذروا حياتهم لطبريا وأهلها الشيخ المرحوم طاهر الطبري (1895 -1959)، وقد أصبحَ شيخًا وهو بعدُ في الثالثة عشرة، ثم انتُخب مفتياً خلفاً لخاله الشيخ عبد السلام الطبري، وظلَّ يشغل مركز الإفتاء في طبريا فضلاً عن تعيينه قاضياً شرعياً (رئيس محكمة الاستئناف الشرعية) فترةً طويلةً. وبحكم عمله في القضاء، تنقل بين عكا وطولكرم وصولاً إلى الناصرة التي استقرَّ فيها عام 1946، لكنَّه أبدًا لم يترك زيارة طبريا إلى أن سقطت في عام 1948.
عن الشيخ طاهر الطبري حدثني حفيده خير الطبري فقال: "أنا أرجِّح ألا تكون هناك علاقة بين لقب العائلة "الطبري" وبين مدينة طبريا التاريخية، وهذا يؤكده وجود عائلة الطبري في دولٍ عربية أخرى كالمملكة العربية السعودية. أمَّا طبريا في نظر جدي وعائلتي فهي "موطن الروح". كانت العائلة طبرانية ارستقراطية مثقَّفة، وجدي وقبله والد جدي وسلالة مِن مشايخ العائلة، حكموا المدينة بالدين والحُسنى".
ويقول خير طبري، المولود عام 1972: "تعلَّقتُ بجدي الشيخ طاهر، فقد ترك بصماتٍ كثيرة، وعُرف بمواقفه الجريئة والوطنية، وقد ترأس الجمعية الإسلامية المسيحية وشارك في مؤتمرات فلسطينية وعربية في فلسطين. ومِن أبرز مآثره قصصٌ "قصة الفاتحة"، التي رواها كثيرون مِن أهل الناصرة ممن عايشوا النكبة وما بعدها فقالوا: "قرّرت شركة "الكيرن كييمت" الصهيونية عصرنة المدن الفلسطينية، وبينها الناصرة، فشاءت أن تُدخل خطوط المياه إلى البيوت. ومِن أجل ذلك دعت إلى احتفالٍ وإلقاء كلمات شارك فيه أعيان البلد وممثلون عن الحكومة الإسرائيلية ومندوبو الشركة. ودُعيَ أيضًا الشيخ طاهر الطبري، وكان ذلك في أوائل الخمسينيات. وراحت الكلمات تُتلى، وانتفخ البعضُ بالتبجح والتلوُّن أمام الحاكم، لكنَّ الشيخ طاهر ظلَّ يؤجِّل كلمته حتى أنهى الجميع خطبهم، فوقف قائلاً: "ماذا بقيَ لي أن أقول؟! واكتفى بقراءة الفاتحة. وقد أدرك الجميع أنه "يقرأ الفاتحة على ضياع الناصرة وطبريا وسائر فلسطين".
عائلة الطبري في الشتات
يتألم الحفيد خير الدين الطبري وهو يتحدث عن عائلته التي لا يزال جميع أفرادها الكبار والصغار لاجئين في الشتات، أكان ذلك في الأردن أو سوريا أو الكويت أو أوروبا وأميركا وسائر دول العالم. ويربط خير الطبري وفاة جده طاهر وهو لا يزال صغيراً، ووفاة عمه باحتلال طبريا. فالشيخ طاهر لم يقوَ على تحمُّل المأساة وفراق أشقائه وعائلته، فظلَّ يشعرُ بالقهر حتى رحل في العام 1959. أما العم خير طبري فيقول عنه ابنُ أخيه الذي أُسمي على اسمه: "كان مِن المجاهدين ولم يَهُن عليه أن يرى طبريا تسقطُ، وحين طُلب من الثوار أن يسلموا أسلحتهم، أطلق الرصاصات في رأسه، فسقطَ شهيداً". ويضيف خير الدين: "ظلَّ الشيخ طاهر يكافح في المحاكم الإسرائيلية بشراسة حتى استرد أملاكه مُسقطاً قانون "الحاضر الغائب"، وأنا أسيرُ على دربه، ولا زِلتُ حتى اليوم أتابع ملفاً عمره عشرات السنين، وسأسترد كُلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من أملاكنا في طبريا".
رائدة طاهر الطبري
كانت رائدة ابنة الشيخ طاهر الطبري في الثالثة يومَ انتقلت بها العائلة إلى مدينة عكا، وهناك تعلَّمت في الصف التمهيدي قبل أن تنتقل العائلة إلى الناصرة. وفي الناصرة كان الارتباطُ الأوثق الذي ظلَّ قائماً حتى العام 1971، حين تزوجت، وتركت الناصرة. لكنَّها ما تزال مرتبطة بمدينة الناصرة بالروح، وهي تشتاقُ إلى طبريا، ديار الأهل.
وتقول السيدة رائدة: "مؤخرًا زارتني ابنة أختي ريم التي تسكُن في أميركا، وقد سِرُت معها في كل زاويةٍ مِن زوايا طبريا: أحجارها، وتُرابها، وأنقاض بيوتاتها، فعدتُ بالذاكرة إلى الماضي، بيت جدي لأمي، وهي لم تزل تجاور دير التيراسانطة، أما سائر البيوت فقد أُقيمَ فوقها مستشفى "بوريا". كما أذكُر البيوت التي احترقت، وسُوِّيت بالأرض".
وتضيف: "كانت أمي حين تشعرُ بالتعب في الناصرة تأتي إلى مدينتها لتستحم في حماماتها المعدنية، فتشعرُ بأنها استردت روحها. وظلَّت والدتي تتمنى عودتها إلى بيتِ أهلها حتى فارقت الحياة. أمَّا والدي فظلَّ يذبُل يوماً بعد يوم حتى أصبحَ عليلاً. وحينَ زارنا عمي، صدقي الطبري بكى والدي طويلاً، أما عمي الذي فقد إحدى عينيه بعد أن فقد طبريا، فتمنى لو أنه لم يترك فلسطين".
أورسيلا أبو حنَّا: طبريا أغلى من الذهب!
التقيتها في بيتها في مدينة الناصرة، وهي المولودة في 10 آب 1930، وكانت صبية يومَ خرجت مِن الناصرة. تحدثني أورسيلا وبريق حُبٍ جارفٍ لطبريا يلوح في عينيها، فتقول: "خرجنا مِن بيتنا في طبريا في العام 1947، أي قبل النكبة، فورَ وفاة والدي عن 52 عاماً. والدتي تألمت بفراقِ زوجها فاقتنعت أنها يجب أن تترك البيت لتنسى قليلاً. فأمي كانت سيدة قوية ومدبِّرة، لكننا كُنا ثمانية أبناء ووالدَين، أي عائلة كبيرة، وأبي كان يعملُ موظفاً (في المساحة) في دائرة الأشغال، وظلَّ الوضعُ المادي صعباً، حتى تمكنت الوالدة مِن بناءِ بيتٍ جميلٍ كبيرٍ مكوَّنٍ من ستةِ غُرف وحمامات".
وتتابع: "بَينَ ليلةٍ وضحاها حزمنا أمتعتنا، وأَجّرنا بيتنا في طبريا، ثم استأجرنا في مدينة الناصرة، وبقيَ البيت بملكيتنا نؤجره طوال الوقت لمستأجرين أجانب، حتى اضطررنا قبل سنواتٍ قليلة إلى بيعه لنستفيد مِن الأموال، بسبب الظروف المادية. كان البيتُ جميلاً ولا زال. وفي بيتنا كانت الوجباتُ الدسمة وملاعب الصِبا، وكانت حياتنا جميلة".
في عام 1983 عادت أورسيلا إلى طبريا والتقت واحدة من صديقاتها اليهوديات، فسألتها الصديقة: "هل أنتِ سعيدة بالعودة والإقامة هنا؟"، فأجابت أورسيلا: "مبسوطة لعودتي إلى بيتي، لكنني أشعرُ بسكاكين تقطع القلب"، وعندها ردت اليهودية: "ونحنُ تركنا اليمن أيضًا". فقالت أورسيلا: "أنتِ لم تُجبَري على ترك اليمن، أمَّا نحنُ فأُجبِرنا على ترك البلاد. هذه بلادنا فكيف للكلاب أن تقتلعنا من جذورنا؟!، لم يعجبها كلامي، لكنني ارتحتُ بعد أن قُلتُ ما أشعر به".
وعن حياتها بعيداً عن طبريا تقول: "أتحسَّرُ على فراقها، لكنني في كل مرةٍ أعودُ إلى البيت، حتى وإن بعته، أرى حجارته تلمعُ بين يدي، وأحس برائحة البحر تُزكِمُ أنفي. أنتشي حين أتحدث عن مدينتي"!.
جبرا قردحجي: غريبٌ أنا في وطني!
في بيت جبرا قردحجي"أبو حبيب" ذكرياتٌ تمزِّقُ القلب شوقاً لطبريا، لكنَّه لا يستطيع العودة إليها إلا زائراً، فهو غريب في وطنٍ فارقه وهو في العقد الثالث. وجبرا قردحجي، هو اليوم في العقد التاسع، تعلَّم في طبريا، وكان في شبابه متطوعاً مع الثوار، حيثُ كان عدد المجاهدين مئتي مُجاهد حين سقطت طبريا.
يقول أبو حبيب: "استمات البريطانيون في دعم اليهود، فمزَّقوا العلاقات الجميلة بين اليهود والعرب، وصارت العدائية تتعمق أكثر فأكثر. لم نكن نرغب في الخروج مِن طبريا، لكنَّ العنف الذي مورس علينا، ودعوة وجيه طبريا المرحوم صدقي الطبري ورئيس بلدية طبريا ليكونا شهوداً على الهدنة بين العرب واليهود، أرغمانا على الخروج. وفي الثامن عشر من نيسان عام 1948، تمَّ ترحيلنا عنوةً عن طبريا، بعد أن اقتحم البريطانيون واليهود فندق الجليل فسيطروا على المدينة، وعجزت الأسلحة المستوردة من سوريا عن الصمود أمام عنف الرشاشات". ويضيف: "مات كثيرون، وخاف كثيرون، فوافقوا على ركوب باصات التهجير التابعة لشركة الجليل الطبرانية وباصات أخرى بريطانية، وخُيِّر المهجرون بين الأردن عبر سمخ والوصول إلى جسر المجامع، أو الناصرة. وقد اختار البعض الآخر ركوب القوارب نحو سوريا. وفي الناصرة استقبلتنا الأديرة فسكنا في "الكازانوفا، التيراسانطة" وبقينا حتى العام 1958، حتى اشترينا بيوتاً في المدينة".
ويتابع أبو حبيب: "عائلة قردحجي هُجرت إلى سوريا ولبنان، وبينهم العم سالم قردحجي وكان مالكاً كبيراً في طبريا، قبل أن يخسر كل شيء وينهب اليهود جميع الحواصل والكراجات والبيوت. وبعد نحو شهرٍ مِن النكبة، دفعنا 10 ليراتٍ لسائقٍ كي نستعيد ما تبقى لنا في البيت، فوافق الحاكم العسكري. ولما عُدنا لم نجد شيئاً في البيت سوى الحجارة. وكنا حين نود زيارة المدينة نحتاج إلى تصريحٍ ينتهي قبل الغروب، فصرتُ أشعرُ بمزيدٍ من الاغتراب والغربة والشوقِ والحنين والضياع. ففوق البيت أُقيمَت عيادةٌ صحيةٌ، وتحوَّلت البيوت العربية إلى فنادقَ، وشاطئ البحر أصبحَ مزاراً لليهود قبل العرب. وهكذا قرَّر الحكام البريطانيون واليهود أن تُصبح طبريا وطنًا لغير العرب".
اضف تعقيب