يوم الجمعة العظيمة لدى الطوائف المسيحية هو يوم مميز في مدينة القدس. فآلاف المصلين يصلون إلى الأرض التي صُلب فوقها المسيح، ليسيروا في أحياء المدينة القديمة على طريق الجلجلة بحسب طقوس كنسية عمرها أكثر من 6 قرون. مراحل درب الجلجلة خلّفت بصماتها على جدران القدس القديمة، فهذه المدينة يغرق زائرها في تاريخها الممزوج بالأديان.
قبل ألفي عام، شهدت القدس عملية صلب، كان يمكن أن تكون حادثة عادية في مقاطعة رومانية بعيدة عن مركز العاصمة. لكن لأسباب كثيرة، تحولت إلى فاصل بين زمنين في تاريخ البشرية، أحدهما ما زال مستمراً حتى اليوم. طريق الجلجلة، أو درب الآلام، هو طقس ديني تتبعه كنائس في العالم كلّها، وتقسم مراحله بحسب ما كتب عنه في الكتاب المقدس. للكنائس المسيحية مركز في القدس، وكلها تحيي "طريق الجلجلة" بحسب طقوسها، فتسير بمواكب عبر الأزقة، وتبحث في الجدران وبين البيوت عن الكنائس التي شُيِّدَت لتخليد أحداث صلب المسيح.
يبدأ درب الآلام، الذي يعتقد أن المسيح سار عليه، من المنطقة المعروفة بالحي الإسلامي في مدينة القدس، وينتهي في الحي المسيحي. وهنا تجدر الإشارة الى تقسيمات في مدينة القدس القديمة تعود إلى فترة الانتداب البريطاني الذي قسم شوارعها وأحيائها على أسس دينية وطائفية وعرقية: الحي الإسلامي، والمسيحي، والأرمني، واليهودي. تبنّى الفلسطينيون هذه التقسيمات، فأصبحت جزءاً من خطابهم الإعلامي والثقافي والسياسي.
والسير على "درب الآلام" يتخذ صفة "رياضة درب الصليب"، حيث تشهد البلدة القديمة في القدس، بعد ظهر كل يوم جمعة من زمن الصوم، طقوساً يشارك فيها أهل المدينة وزوارها. كلهم يقتفون آثار المسيح بين بيوت القدس وأسواقها. آثار "درب الجلجلة" تحددها اليوم معالم أثرية وتاريخية. وكثيراً ما تصادف هذه الطقوس خروج المصلين من الحرم القدسي الشريف، فيختلط الجميع في شوارع القدس القديمة، في تعبير رمزي غير مقصود عن الهوية التعددية الثقافية والاجتماعية للمدينة المقدسة.
وتنظم المسيرات على درب الجلجلة حراسة الأراضي المقدسة للآباء الفرنسيسكان، ويحمل كثيرون من المشاركين في المسيرة صلباناً خشبية كبيرة، تيمناً بالسيد المسيح. وقُسِّم درب الآلام أو الجلجلة إلى 14 مرحلة، يُعتقد أنها تمثّل ما حدث مع المسيح عندما سار فيه قبل أكثر من 2000 سنة حاملاً صليبه محفوفاً بالجنود الرومانيين، بعد الحكم عليه بالموت. وتقع 9 مراحل من درب الآلام خارج كنيسة القيامة، و5 داخل الكنيسة المفترض أنها مقامة على تلة الجلجلة التي شهدت حادثة الصلب.
وبدأت ما يطلق عليها "طقوس درب الآلام" في القرن الثاني عشر الميلادي، وطورت إلى شكلها الحالي، وتحديداً الـ14 مرحلة في القرن الخامس عشر.
المرحلة الأولى تبدأ من ساحة المدرسة العمرية الإسلامية التي عرفت بأنها المكان الذي صدر فيه الحكم بالموت على المسيح. ثم ينطلق المشاركون في شارع يتميز بأقواسه النصفية، تحف به المساكن والمنشآت الإسلامية والمسيحية إلى نقطة المرحلة الثانية، حيث سُلِّم المسيح صليبه. وهذه النقطة من طريق الجلجلة هي الأهم من الناحية الأثرية، إذ يرتفع هناك نصف قوس بديع، تُعرف باسم قوس "هوذا الرجل"، وهي بقايا قوس بناه الإمبراطور أدريانوس تذكاراً لدخوله مدينة إيليا كابتولينا التي بناها بعد هدم مدينة القدس وطرد اليهود منها عام 135م. وأخذت القوس اسمه من جملة للحاكم الروماني بيلاطس يشير فيها إلى المسيح قائلاً: "ها هوذا الرجل". وفي هذه المرحلة ترتفع أيضاً كنيستا "الجلد" و"الحكم" وبينهما دير الجلد الفرنسيسكاني، الذي يستعمل منذ 1927 مركزاً لـ"معهد الكتاب المقدس الفرنسيسكاني"، الذي يمنح الشهادات الأكاديمية في اللاهوت والعلوم الشرقية، وهو مركز بحوث في علم الآثار، داخل جدرانه متحف. ومن بين الأشياء المعروضة الكثيرة، في باحات هذا المكان، قطعة حجرية عليها كتابة لاتينية، وتيجان أعمدة كان بعضها في موقع كنيسة القيامة، وهناك قطع أخرى تعود إلى القرون الوسطى عثر عليها في موقع الكنيسة التي شيدت عام 1904 على أنقاض كنيسة صليبية. ويعتقد أن هذا الموقع كان جزءاً من بلاط الحاكم الروماني في القدس، بسبب الأرضية الرخام التي عُثر عليها. وتقول المعتقدات إن القصر إنما هو للحاكم بيلاطس البنطي الذي حكم على يسوع المسيح.
ويتابع المشاركون في مسيرة درب الآلام سيرهم إلى مفترق الطريق المؤدية إلى أبواب الحرم القدسي الغربية، فيتجهون يساراً، ويزورون كنيسة صغيرة أقيمت لذكرى وقوع المسيح تحت الصليب. الكنيسة تعود لطائفة الأرمن الكاثوليك، وهي مبنية على أساسات كنيسة بيزنطية تعود إلى القرن الخامس.
وحُدِّدت المرحلة الرابعة، ذكرى التقاء المسيح بوالدته مريم، بقنديل موضوع فوق باب يؤدي إلى مصلى صغير للأرمن. وبعد الانتهاء من هذه المراحل يجب على المشاركين الصعود في «عقبة»، كما يطلق سكان القدس على الطرق التي يجب السير فيها صعوداً. ويُطلَق على هذا الطريق الذي يعج بالناس والتجار والسياح والأهالي اسم «عقبة المفتي» نسبة إلى مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، لأن منزله يقع إلى اليسار من هذا الطريق، وكانت الوفود الفلسطينية تتجمع أمامه وهي تحمل البيارق في شهر نيسان من كل عام، للمشاركة في موسم النبي موسى.
في هذا الطريق تقع المرحلة الخامسة من درب الآلام، وحددت بأنه المكان الذي ساعد فيها سمعان القيرواني المسيح على حمل الصليب. فبنيت كنيسة فرنسيسكانية صغيرة في الموقع لإحياء ذكرى الحدث، وفي الطريق نفسها على بعد خمسين متراً، تقع المرحلة السادسة حيث مسحت ڤيرونيكا وجه المسيح المتعب بمنديل، ويوجد في المكان كنيسة للروم الكاثوليك وفيها دير يحمل اسم رهبنة "أخوات يسوع الصغيرات".
ويواصل المشاركون صعود الطريق المتعب، حتى أشهر أسواق القدس القديمة المعروف بسوق خان الزيت، هناك تقع المرحلة السابعة، وحددت بأنها المكان الذي شهد سقوط المسيح للمرة الثانية. وقد شيد في ذلك المكان، وداخل أحد المنازل القديمة لمدينة القدس كنيسة فرنسيسكانية صغيرة تحوي داخلها عموداً رومانياً.
من هذا المكان ينطلق المشاركون يميناً، وسط الأسواق وضجيجها، إلى المرحلة الثامنة، التي حددت بأنها التي شهدت حادثة التقاء بنات القدس بالمسيح، ثم يعود المصلون إلى قرب باب دير الأقباط في المكان الذي حدد بالمرحلة التاسعة، حيث وقع المسيح تحت الصليب للمرة الثالثة ويوجد عمود يشير إلى المرحلة، مثبّت في الحائط قرب باب دير الأقباط.
يعود المشاركون في المسيرة إلى الأسواق، ليواصلوا سيرهم حتى كنيسة القيامة. وهنا، قد يخرج بعض المصلّين عن المجموعة، فيواصلون سيرهم من دير الأقباط وينزلون من السطح إلى كنيسة القيامة. وهناك صلبان خشبية جاهزة معروضة، يمكن استئجارها، فيحملها بعض المصلين على أظهرهم ويسيرون مسافة 100 متر أو أكثر تيمّناًً بدرب الجلجلة وفي محاولة «لمشاركة» المسيح تعب الطريق ووجعه.
وداخل جدران كنيسة القيامة تقع باقي مراحل طريق الجلجلة. في المرحلة العاشرة عُرِّي المسيح من ثيابه، وفي المرحلة الحادية عشرة وضع على الصليب مسمراً، وفي المرحلة الثانية عشرة مات على الصليب. أما المرحلة الثالثة عشرة فهي لإنزاله، ويرمز إليها بالمغتسل أو حجر التحنيط في كنيسة القيامة، وهناك يقف المؤمنون ويحاولون تلمس الحجر. أما المرحلة الرابعة عشرة والأخيرة فهي لذكرى الدفن والقيامة ويرمز لها بالقبر المقدس.
إنما للمشاركة في هذه الدرب معنى اجتماعي ديني عميق. فهو رفض للزمن وإعادة إحياء لواقعة حدثت قبل ألفي عام، إيماناً بأن هذا هو الدرب الذي سلكه المسيح، فمثّل إلهاماً لأعداد لا تحصى من البشرية طوال قرون، إذ يأخذ طابعاً خاصاً في عيد الفصح، فيسيرون فيه فرادى أو مجموعات قبل عيد الفصح وبعده. ومثل باقي أزقة بلدة القدس القديمة وشوارعها، فعلى طول هذا الدرب وضعت سلطات الاحتلال كاميرات مراقبة، تنقل كل ما يحدث إلى غرفة عمليات تديرها الأجهزة الأمنية لاحتلال طال كثيراً.
اضف تعقيب