يقول الصحافي البريطاني روبرت فيسك في مقال نشرته اليوم الاثنين صحيفة "ذي انديبندنت" ويتناول فيه احتمالات موت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مسموماً ان عرفات اودع ثقة عقيمة في اسرائيل والولايات المتحدة – وهو خطأ ما زال الشعب الفلسطيني يعاني منه، وان السم الحقيقي يمكن العثور عليه في تركة عرفات. وفي ما يلي نص المقال:
"لم اكن قط كثير الاعجاب بياسر عرفات. لم يكن الامر يتعلق باللحية القصيرة او بالعينين الجاحظتين، اوحقيقة انه تخلص من عدد قليل من زملائه، او حتى الطريقة التي منع فيها ذات مرة صديقا مصورا من التقاط صورة تبين صلعة رأسه. لكنه التكلف في السلوك، او الحديث الذي لا نهاية له بشأن "سلام الشجعان"- وهي عبارة نقلها عن (الرئيس الفرنسي السابق) ديغول – والطريقة التي يكرر بها الخسائر في صفوف الاطفال ("حتى الرضع الصغار...") وبعد ذلك ابراز الجنيه الفلسطيني القديم في اللقاءات وقد كتبت عليه كلمات بالعربية والعبرية. ألا يثبت هذا ان العرب واليهود يمكنهم ان يتعايشوا سوية؟
لقد قدم عرفات الكثير من التنازلات لاسرائيل – لانه تقدم في السن ويريد الذهاب الى "فلسطين" قبل ان يموت – الى حد ان خلفاءه السياسيين ما زالوا يعانون بسببه. لم يشهد عرفات رأي العين أي مستوطنة يهودية في الاراضي المحتلة عندما وافق على اتفاق اوسلو.وقد وثق بالاميركيين، وبالاسرائيليين، وبكل من بدا انه يقول الامور الصحيحة. ولا بد انه كان من المنهك ان يبدأ مسيرته باعتبار انه "ارهابي" من اعلى مستوى في بيروت، ثم يلقى الترحيب في حديقة البيت الابيض باعتباره "سياسياً" من اعلى مستوى، قبل ان تعيد اسرائيل اليه صفة "سوبر ارهابي" مرة اخرى.
في النهاية، لاحظ زواره القلائل انه بينما كان مطوقاً في مقره في رام الله وتقصفه الدبابات الاسرائيلية، كيف تركت الايام اثارها على هيئته وكيف بدا مريضا. وقال دبلوماسي اسكندنافي تمكن من زيارته كيف انه كانت لديه عادة ازالة الجلد الميت من قدميه خلال اللقاءت، وكيف كانت تنبعث رائحة المراحيض.
بعد ذلك كانت رحلة عرفات بالطائرة الى باريس – وانقلب الاسرائيليون فجأة الى إنسانيين تجاه الرجل المسن- بل انه حتى قبل وفاته، كانت هناك الهمهمات الاولى اعن التسميم. لم انظر الى تلك الهمهمات نظرة جدية. فقد كنت اظن أنه اذا هو تخطى تلك المرحلة وبقي حيا، فسوف تتوقف الاشاعة. واذا توفي فانه يكون تعرض لتسميم – بالتأكيد مثلما تعرض نابوليون للتسميم على ايدي البريطانيين، ومثلما كانت احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) بالتأكيد مؤامرة حبكتها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. وهكذا، بالطبع، قيل لنا انه تعرض للتسميم.
بدأت سهى عرفات، التي انفصلت عنه منذ سنوات، الحديث عن مقتله، ومنذئذ اصبح الامر يتعلق بحادث اغتيال. وقد وصل الى سمعي نقلاً عن ممرضة عسكرية فرنسية في مستشفى بيرسي العسكري حيث عولج عرفات وحيث مات، ان السلطات الطبية الفرنسية اجرت فحوصات مكثفة قبل الوفاة وبعدها لمعرفة ما اذا كان عرفات قد تعرض لحالة تسميم. لكنهم لم يعثروا على اي اثر للسم. وكانت علاقات الفرنسيين سيئة في ذلك الوقت مع اسرائيل.
ولكن مع امتداد السنين، لم يكن من الممكن ان يدور اي حديث او يأتي ذِكر لموت عرفات من دون كلمة "السم". وعندما بدأت الاتهامات، صار الناطقون الاسرائيليون يتحدثون حتى عن امكانية ان يكون اعداء عرفات الفلسطينيون قد تخلصوا منه. وثبت ان اسرائيل، من جهة اخرى، قد حاولت تسميم مسؤول في "حماس" في عمان – وتم ابلاغ الملك حسين بالترياق وارغم بنيامين نتنياهو على اطلاق الشيخ احمد ياسين كجزء من الصفقة. واغتال الاسرائيليون ياسين في وقت لاحق، بقصفه بصاروخ وهو في مقعده المتحرك.
ثم في هذا الشهر، عندما تحدث العلماء في تقريرهم عن العثور على مستوى عال من البولونيوم في جسم عرفات، بدأ (الحديث) مرة اخرى. وقال لي شخص اجرى مقابلة معي ان (البولونيوم) ربما جاء مع قذائف اليورانيوم المنضب التي كان الاسرائيليون قد اطلقوها على مقر عرفات عندما كان محاصراً بداخله. توجد هنا مشكلة. فوفقاً لاستفساراتي في ذلك الحين، لم يكن لدى الاسرائيليين قذائف يورانيوم منضب في ترسانة عتادهم. ولا يعني ذلك انهم لم يستخدموها في مواقع اخرى. ولكن ليس في رام الله.
ولكن ما هي الادلة في الواقع؟ لقد توفي في 2004، يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو يوم مناسب بالنظر الى ان هدنة الحرب العظمى آذنت بنهاية صراع جاء بميلاد "الوطن القومي" الاسرائيلي في فلسطين. ان التحقيق الروسي لم يتوصل الى نتائج حاسمة. والفرنسيون لم يعطونا بعد نتائجهم. والعينات الـ60 التي اخذت من رفات الرجل المتقدم في العمر وملابسه لم تؤد بالمحققين السويسريين سوى الى قول ان دليل الـ"بولونيوم" يدعم بـ"اعتدال" فكرة انه قد سمم.
انني متشكك. قال لي ادوارد سعيد ان عرفات قال له في 1985 انه "اذا كان هناك اي شيء لا اريده، فانني لا اريد ان اكون مثل الحاج امين. كان دائماً على صواب، ولم يحصل على اي شيء ومات في المنفى". ذهب الحاج امين، مفتي القدس، لانه كان مطارداً من البريطانيين، الى برلين خلال الحرب العالمية الثانية على امل ان يساعد هتلر الفلسطينيين. كانت تلك اكبر غلطة ارتكبها اي قائد فلسطيني. وقد اتبع عرفات تلك الغلطة بذهابه الى بغداد ومعانقة صدام حسين بعد غزوه الكويت، معتقداً ان صدام "سيحرر" الارض المسماة فلسطين. اراد عرفات ان يصدق صدام. مثلما اراد ان يصدق الاميركيين. والاسرائيليين. هذا هو السم الذي يجب ان ندرسه".
لارسال مواد واخبار لموقع قسماوي نت البريد: info@kasmawi.net
اضف تعقيب