عندما قام قراصنة بوضع تغريدة مزيفة عبر حساب لوكالة أسوشيتد برس عن وقوع انفجارات في البيت الأبيض بأبريل/نيسان من العام الماضي، خسر مؤشر داو جونز 140 نقطة، في حين تراجع مؤشر ستاندرد أند بورز بعشرين نقطة.
وقبل أن تتمكن الوكالة من توضيح حقيقة ما حصل كانت الأسواق قد شهدت تداول عشرة مليارات دولار خلال دقائق، وجرت الحادثة بعد يوم واحد من تعرض التعاملات على سهم غوغل لمشكلة أفقدت السهم 20 دولارا خلال ثوان.
هذه الأمور باتت تحصل بوتيرة شبه يومية، ولكن الكثير من هذه الأمور لا يصل إلى وسائل الإعلام، ولا أحد يقوم بتسجيلها سوى المواقع الإلكترونية المتخصصة. لقد تبدلت التعاملات الاقتصادية العالمية لتصبح آلية بالكامل وتعتمد على العملات الإلكترونية، أما اللاعبون الحقيقيون في سوق التعاملات الإلكترونية الفائقة السرعة هذه فهم ليسوا سوى الشركات الكبيرة ذات الأنظمة التقنية المتطورة.
أجهزة الكمبيوتر التي تمتلك سرعة تفوق سرعة البشر في التعامل مع الأحداث والأخبار باتت سمة من سمات عصرنا، وهو أمر يصعب مقاومته، كما أن الاعتماد عليها لا يحمل الكثير من المجازفات، ولذلك أفترض أنها ستبقى مهيمنه على هذا القطاع، لكن هناك بعض الاستراتيجيات التي تثير قلقي، والتي لا يمكن إلا لأجهزة الكمبيوتر القيام بها.
ومن بين تلك الاستراتيجيات رصد أوامر الشراء الحقيقية في السوق، سواء أتت من صناديق التحوط أو شركات التأمين أو الصناديق المشتركة أو صناديق التقاعد أو حتى من الوسطاء العاديين، والعملية ببساطة هي صدور أمر من الزبون بشراء سهم معين عند متوسط السعر بالنسبة ليوم التداول، وبمجرد صدور الأمر ترصده أجهزة الكمبيوتر.
وعادة ما يتم التعرف على الوسيط الذي أصدر أمر الشراء، وتقوم أجهزة الكمبيوتر لدى الشركات المتخصصة في التعاملات الإلكترونية الفائقة السرعة بتمضية جلسة التداول وهي تقوم بعمليات شراء استباقية قبل تطبيق أمر الشراء من الوسيط ومن ثم إعادة بيع الأسهم بعد أن يحصل تضخم مصطنع في سعرها تستفيد الشركات منه.
وهذا الأمر يسري على أوامر الشراء الصغيرة أيضا، فما أن ترصد أجهزة الكمبيوتر لدى شركات التعاملات الإلكترونية الفائقة السرعة صدور أمر الشراء الأصلي حتى تقوم بعمليات شراء استباقية تؤدي إلى رفع الأسعار وتضطر الزبون الحقيقي إلى دفع سعر أعلى لقاء الحصول على السهم باعتبار أن الصفقات التي تقوم بها قد أدت إلى رفع سعره.
لقد لاحظت حصول هذا الأمر بنفسي، فما أن كنت أقوم بوضع أمر بالشراء على سهم معين حتى يرتفع سعره بشكل مفاجئ. هناك الكثير من شركات التعامل الإلكتروني السريع تنفذ هذه الأعمال على آلاف الأسهم يوميا، متسببة بخلق ظاهرة جديدة قيمتها مليارات الدولارات تقوم على استباق الشراء الحقيقي.
هذه الظاهرة الجديدة تقوم بها شركات لديها تكنولوجيا متطورة وتعمل انطلاقا من مواقع قريبة من البورصات وتتصل بها بشبكات إلكترونية، وهذا يسمح لها باستقبال وإرسال تقديرات أسعار الأسهم قبل السوق العامة، بل إنها تعمد إلى إغراق أنظمة التداول بتقديرات الأسهم لدرجة تؤدي إلى تباطؤ عملها، فهناك إذا احتمال كبير بأن هذا التأخير يؤدي إلى تلقينا لبيانات أسعار مختلفة عما هي عليه في الحقيقة لأن القيم تكون خلال ذلك الوقت قد تبدلت.
نحن الآن نقوم بالتداول في الأسواق المالية وكأننا عميان، وهذا أمر مؤسف للغاية في زمن يفترض فيه أن يحصل الجميع على فرص متساوية. من الواضح بالنسبة إلي أن نسبة كبيرة من التحركات السعرية التي نراها في الأسهم اليوم لم تعد تحصل بسبب القواعد الأساسية للسوق، ولا حتى بسبب ظواهر مثل الطمع أو الخوف، أو حتى الوفرة غير المبررة، بل بسبب تصرفات لا يمكن توقعها تقدم عليها أجهزة كمبيوتر خارجة عن أي رقابة.
أما سبب وصولنا إلى هذه المرحلة، فيعود إلى نقص التشريعات التي سمحت بوجود مثل تلك الشركات والمساحات الجديدة للتداول، والتي فرضت على الجميع التصارع لأجل تحقيق الأرباح.
شركات التعاملات الإلكترونية الفائقة السرعة هي اللاعب الجديد في السوق اليوم، بل إنها مسؤولة عن نصف التعاملات تقريبا، ولا يمكن بالتالي لأي جهة في السوق أن تردعها أو تغضبها، بل إن بعض الأسواق تقدم لها الحوافز لجذبها. شركات التعاملات الإلكترونية الفائقة السرعة ستقول للجميع إنها تؤمن السيولة في السوق وتحد من التذبذبات، ولكنني في الواقع أظن أنها تفعل العكس تماما، فهي تسحب السيولة عندما تحتاجها وتزيد من التذبذبات وفقا للظروف التي تناسبها، هي تشبه الضريبة المفروضة علينا جميعا.
لقد ترعرعت على الإيمان بأن البورصات تجمع الأموال من المستثمرين لصالح الشركات وهي المكان المناسب لبيع وشراء الأسهم وفقا للأسس المنطقية للاقتصاد، ولكن إذا واصلنا التعامل معها وكأنها كازينوهات يمكن خلالها لبعض اللاعبين رؤية أوراق اللعب التي بحوزة منافسيهم فلا يجب أن نصاب بالدهشة عندما نكتشف أننا كنا نقامر بمستقبل اقتصادنا المبني على التداول بأسواق المال.
اضف تعقيب