كتاب
أبو على شاهين....
مسيرة شعب
كتاب
أبو على شاهين....
مسيرة شعب
إعداد: خالد عزالدين
أبو علي شاهين
"من المؤمنين رجال ... "
رحل الرجل ...
حضر الرجل ...
الموت مشكلة الأحياء ..
أما هو فقد قال وصيته المقاومة وأودعها الأحياء ..
قال كلَّ ما أراد رصاصاً وتحدياً وصلابة، ..
وكان لا بدّ لكي يكتمل أن يرحل كما رحل الشهداء ..
دون أن يبدلوا تبديلا ..
"إنا لله وإنا إليه راجعون"
شكــر وتقدير
لا تنهزم الأمم عندما تنكسر دباباتها، ولكن عندما تُصاب بالأمنيزيا وتنسى تاريخها، وتقطع معه، ذلك أن الذاكرة هي الجينات الحافظة الناقلة لسمات ومقومات الأمة، وهي الضامن لتبرعمها وقيامتها وهي الحافظة لها من الفناء مهما كان الدمار ومهما كان العناء،والذاكرة هي كل الكيمياء البشرية لشعب ما على مدار حيويته في سياقه، وتشمل فيما تشمل آثاره وأشعاره، أشواقه وقيمه وتمثله وعمرانه، أسماءه وحكايات السهر، ضحكاته ودموعه، موسيقاه وأهازيجه، فرحه وبكاءه، حزنه وإخفاقاته، انتصاراته وانكساراته، لهجاته والكلمات الخارجة عن السياق، نزقه وترفه وفقره، انتشاؤه بالياسمين ورائحة النباتات، مستفزات حيائه، انفعالات روحه وارتدادات جسده وارتعاشات وجدانه على قرارات أمواج الطرب والطقس وانحناءات الجغرافيا، كتاب المذاقات، خفقة الحب، خيوط الغزل، أول اعتقال، وحديثٌ صامتٌ إلى تينةٍ بجانب الجدار، بصمة الصوت واللانهائيّ في العيون، الثابت والمتحوِّل، مزاجها الجمعي، صورة روحها وهي تنسجها على الصدر وتغزلها على القمر وتغنيها في مواسم البذر والحصاد، هو أوسع من اللانهاية التي تحيل إلى النقصان، لأنه اكتمالها الذي يفتح من كل فجٍّ عليها بكامل الاكتمال، والذاكرة ليست مفردات، لكنها التلاقح والتراكب المفتوح والمتحرك في الزمان لكل الذرات، وليس هذا الكتاب الذي بين يدينا إلا اجتهاداً في محاولة الذاكرة، ليس قصة مناضل ثائر بقدر ما هو محاولة قراءة إنسانٍ بوجدان إنسان في فيوض الذاكرة وفتوحاتها الفلسطينية، وهو جهدٌ نتقدم به للأيام العربية الفلسطينية ليضيف إن استطاع سطراً إلى سفر ذاكرتنا، وهو إنجازٌ ما كان ليكون لولا توفيق الله، وجهد كثيرين تشجعوا له وساهموا في إنجازه، وهم بالإضافة إلى من حرروه كثيرون ممن أبدوا النصح والملاحظات وشاركوا في التصحيح والتدقيق اللغوي والتاريخي، ولا أملك إلا أن أخصّ بالذكر الجهود المميزة للدكتور عبدالنور بوخمخم، والدكتور أيمن عبد العزيز شاهين، والدكتور سليم الزعنون، دون أن يقلل هذا من فضل كثيرين غيرهم لا يتسع المجال لذكرهم، لهم جميعاً الشكر والامتنان، ويكفي الجميعَ منا شرفُ ولذةُ التوقيع على جملةٍ غير عابرةٍ في الذاكرة.
في حضرة غياب هذا العظيم..
نمر في ذاكرة البندقية ورائحة أرضنا وصباحات الجبهة الساخنة.
حينما تلمع عصاه في نقطة وعينا..نستجمع حقيقة وجودنا كثورة.. وطفولة.. ورغبة في الاتكاء على عكاز الختيار أبو علي شاهين..لنبكي على أنفسنا من بعده..أو نغرغر بضحكات النصر الذي وعدنا به مرارا.
ابو علي شاهين...
لم يكن ذاته..
كان نحن.
وكان صخبنا.. وطهارة بيارات بلادنا..وقصة اللاجئين الخارجين من قرى النكبة.
انه رجل بلحم ودم..مضي كالمنشار يقص قضبان الزنازين
هو ما نقرأه في الميثولوجيا من الأساطير وحكايات البطولة التي لا تتكرر
هو قطعة من تاريخنا..ونضالنا..وحزننا.. وفرحنا...وبعض أشياء تحفظ لبصيرتنا النور والاقتداء بسنن المرابطين الذين لا يتنازلون أو يتراجعون.
أبو علي شاهين..كان من فلسطين..وعاش من فلسطين..وتشكلت خلايا دمه من فلسطين، واخرج آخر نفس في روحه وهو يحلم بروابي بفلسطين.
أبو علي.. قصة فلسطين ومسيرتها الأبدية نحو طريق العودة
إن كتابة حكايته ..وفاء لفلسطين وجهادها
حكايته.. ترتيل ثورة لا نريد للأجيال أن تنساه
تـــــقــــديـــــــــــــــــــــــم
ذهب عنا إلى رحاب الله مناضلٌ من أنبلِ مناضلي هذه الأمة، وقائدٌ من أعزِ قادتها، ومقاتلٌ من أصلبِ رجالها، ومفكرٌ من أفضلِ مفكريها، رجلٌ كان عطاؤه بالفكرِ وبالممارسةِ وبالتضحيةِ عطاءٌ منقطع النظير، رجلٌ لم يحمل قضية أمته في عصر من أخطر عصور الإنسانية فحسب، بل شارك مع إخوان له من جيل العمالقة في تشكيل هذا العصر ذاته، ورسم منحنياته، رجلٌ عاش لقضية أمته وذهب إلى رحابِ ربهِ وهو يناضل من أجل انتصارها، رحل "أبو علي شاهين" تاركاً للشعب الفلسطيني إرثاً طويلاً من النضالِ والفكرِ والفلسفة.
لقد كرس حياته من أجل القضية الفلسطينية، فآمن بالثورة فكراً وأسلوباً ونهجاً، انضم إلى حركة فتح مطلع ستينات القرن الماضي فكان أحد المؤسسين الأوائل للجناح العسكرى (قوات العاصفة) ونفذ العديد من العمليات العسكرية إلى أن وقع فى الأسر أوائل السبعينات، وأمضى في سجون الاحتلال خمسة عشر عاماً، شكل خلالها الركيزة الأساسية للحركة الفلسطينية الأسيرة، بعد الإفراج عام 1982 وضعه الإحتلال تحت الاقامة الجبرية، رغم ذلك تمكن من تأسيس منظمة الشبيبة الفتحاوية بتشكيلاتها الطلابية والاجتماعية والنسائية، التي لعبت وما زالت تلعب دوراً مهما في رفد حركة فتح بالدماء الشابة الجديدة، حينها قال مقولته الشهيرة " إذا قدر لحركة الشبيبة أن تعيش فهى الطريق الأقصر لاجتثاث الإحتلال"، ثم تم نفيه إلى لبنان، وتنقل بين لبنان والعراق وليبيا وتونس، حتى عاد إلى أرض الوطن مع طلائع السلطة الوطنية الفلسطينية في أكتوبر 1995، وواصل مشواره النضالى داخل الوطن من جديد، وانتخب في أول دورة للمجلس التشريعي عام 1996، وشغل منصب وزير التموين من 1996 حتى آيار 2003.
على المستوى الفكري صاغ "ابو علي شاهين" رؤية قائمة على تجربة الماضي وشروط الواقع، فكان محاوراً من طرازٍ رفيع يستخدم التاريخ بعصوره المختلفة، لإسناد رؤيته، يجيد تفسير الحاضر والتنبؤ بالمستقبل استناداً على تجربة الماضي، رحل "شاهين" وترك مخزون ثقافي وسياسي وإرث كبير للحركة الوطنية الأسيرة والحركة الثقافية كونه أغنى المسيرة التربوية والأكاديمية بأكثر من 30 رسالة علمية محكمة من درجتي الماجستير والدكتوراه نوقشت في الجامعات الفلسطينية والعربية والدولية، جسد من خلالها فكره وشهادته على مسيرة النضال وبشاعة الاحتلال في السجون والمعتقلات الإسرائيلية.
رحل " أبو علي شاهين" تاركاً للشعب الفلسطيني إرثاً طويلاً من النضالِ والفكرِ والفلسفةِ، خالداً كرمز من رموز الثقافة والنضال الوطني التحرري والاجتماعي الإنساني، ليس في فلسطين فحسب بل في فضاء الثقافة والنضال على المستوى الأوسع، فالرحيل في هذه الحالة لا يعني الموت، على اعتبار الموت حالة تتلاشى فيها الصورة من الذاكرة ، و" شاهين" حامل القضية في حياته، سيصبح رمزاً لها بعد رحيله، فتجربة التاريخ تؤشر إلى أن كل شخص عاش حياته لقضية وأدى دوره في سبيل أهدافها، يتحول رمزاً للقضية ولأهدافها معاً، ويصلح ذلك في مجال العقائد الاجتماعية والعمل السياسي، والفلسفة والعلوم والفنون، وفي كل مجال يعيش فيه ومن أجله الإنسان.
محمد دحلان
عضو المجلس التشريعي الفلسطيني
الفصل الأول / ذكريات النكبة ومأساة التهجير
إن سيرة حياة بعض القادة في العالم؛ تظل على مدى السنين لا تتقادم ولا يغطيها النسيان؛ بل تنبض دائمًا بالحرارة والأمل؛ ورغم كل ما كتب وما سيكتب عن أبو علي شاهين، سيظل قاصراً عن التعبيير على مدى حبه لفلسطين، بطلاً سيسجل التاريخ بطولاته وأمجاده.. وسيظل بتاريخه المشرق قدوةً لأبناء كل جيل؛ ما أصعب الكتابة في حضرة هذا الرجل، وما أصعب أن يتحدث المرء عن ذاته وصيرورة حياته، ويروي قصة النشأة والمنطلق؛ واستشهاد والده، ثم رحلة اللجوء إلى غزه الحبيبة.
أولاً: النشأة والمنطلق
يبدأ أبو على شاهين قائلاً: لم تسمح لي الظروف الصاخبة التي أحاطت بمولدي أن أعرف تاريخاً محدداً بيوم لذاك الميلاد، لكنني عرفت فقط بأنني أقبلت على هذه الدنيا في ليلةٍ شديدةِ المطر من أيام العام 1941م ، ولم تسمح لي الظروف المتفجرة في البلاد حينها بسبب القتال المندلع بين الثوار الفلسطينيين والعرب من جهة وبين العصابات الصهيونية من جهةٍ أخرى من العيشِ عيشة الأولاد العاديين، فرحلنا عن قريتنا بشيت وكان لي من العمر حينها تسع سنين، ولم تسمح لي ظروف اللجوء والتشرد من التمتع بحياة الصبيان الطبيعيين أيضاً، ولم تسمح كل الظروف التالية لكل ذلك، لا لي ولا لجل أبناء جيلي من التمتع بأي شيء يذكر من متع الحياة الدنيا.
أما في السجن عندما كنت أسمع ما أسمع من الإخوة والرفاق؛ وأحياناً أقرأ ما أقرأ عن الحب وأعراضه، والعشق وأحواله، كنت أظن بأنني متورط في شيءٍ ما يشبه ما يقولون عنه، لكنني تأكدت لاحقاً بأنني مسكون بحالةِ عشقٍ من نوعٍ مختلف، أقول لك هذا بكل صدق، لقد كنت مصاب بحمى عشق الأسرى والمناضلين، لقد إستحوذت معاناتهم منفردين ومجتمعين على كل ما لدي من مشاعر وأحاسيس، وأخذت كل ما لدي من إهتمام وولاء، لقد ألمت بي هذه الحالة وظهرت أعراضها علي منذ أن التقيت بأول فدائي أسير في زنازين المعتقل.
يقول أبو علي عن مكانِ وظروفِ مولده، ولدت في قرية بشيت قضاء الرملة لواء اللد، ولا أعرف في أي يوم على وجه التحديد، فشهادة ميلادي فقدت مع والدي حينما أستشهد أثناء التصدي لهجمات العصابات الصهيونية على القرية، لأنها كانت في جيبه قبل يوم من ذاك الحدث، وهذه واحدة من الأمور التي أثارت الحيرة لدي ردحاً من الزمن، لكن ما إستقر عليه الاعتقاد أخيراً بأنني قد ولدت في ليلةٍ ماطرةٍ من ليالي العام 1941م، أثناء الحرب العالمية الثانية، أما والدي فكان يعمل نجاراً في معسكرات الجيش البريطاني، وأمي فهي إمرأةٌ فلاحةٌ عادية كانت تساعد والدي في حرث الأرض وزرعها وجني غلالها.
عمي محمود شاهين تمت تصفيته جسدياً على أيدي عملاء الإنجليز لأنه كان من فصيل الثوار الموجود في القرية، والذي كان يقوده عبد القادر أبو العينين، هناك عم آخر لي أعدمه الإنجليز نتيجة حيازته للسلاح، كان ذلك قبل إغتيال عمي محمود، إضافة إلى والدي الذي كان يرأس نادي الجمعية في القرية، الذي كان يركز نشاطه لمحاربة إستمرار الاستيطان الصهيوني في البلاد، وضد الاحتلال العسكري الإنجليزي، ما أوجد في المنزل حالة وطنية متفجرة.
كان لوالدي أصدقاء كثيرون من خارج القرية، يترددون على بيتنا ويعقدون الاجتماعات، جدي كان متعلقاً بالأرض وحريصاً عليها، ولا زلنا نحتفظ في بيتنا حتى الآن بأوراق الطابو، هناك حادثة يمكن أن تكون غير مستوعبة، فقد قام جدي بشراء قطعة أرض من يهودي، خارج حدود القرية، بعد أن ضايقه كثيراً، واضطر اليهودي لبيعها، لقد استوقفت هذه الحادثة المخابرات الإسرائيلية طويلاً عندما قاموا في أحد الأيام بتفتيش البيت ورأوا أوراق الطابو، وقالوا : هذه مشتراة من يهودي؟ قلنا: نعم، نحن إشترينا هذه الأرض من شخص يهودي، نعم أخي العزيز في مثل هذا البيت، كانت نشأتي وبدايتي .
ثانياً: استشهاد والدي.
وأنا طفل قيل لي: أبوك مات! سألت وكيف مات ؟
قالوا استشهد، ومن بعدها ظللت كلما سألني أحد عن نفسي أقول له: أنا أبن الشهيد فلان، كنت أشعر أنني يجب أن أقول كلمة الشهيد، وكانوا يقولون حتى هذا الصغير يصر على كلمة شهيد ، وحين كنت أُسأل من الذي قتله كنت أجاب دائماً بأن الصهاينة قتلوه، لم أقل يوماً اليهود، من أين جاءت كلمة الصهاينة ؟ لم أكن أدري، إلا أن صورة اليهودي كبرت في رأسي.
أذكر صاحباً لأبي جاء إلينا بعد استشهاده، راح يلاطفني ويداعبني، ثم فجأة سألني:
أتعرف من قتل أباك يا عزيز؟
قلت: من
قال: قتله الصهاينة
سألته: من هم الصهاينة ؟
قال لي: هؤلاء هم اليهود الذين يحاربوننا .
هكذا وضعني صاحب والدي على تفكير جديد، وبقيت تلك الكلمة حتى الآن في أذني.
تسألني كيف سقطت بشيت؟
لقد توالت الهجمات الصهيونية عليها في ثلاث موجات، وتمكنت القرية من دحرهم في الموجة الأولى، وقد تركوا جثث قتلاهم على أرض القرية، وحضر الإنجليز وأخذوها، ثم عاودوا هجومهم بعد أسبوعين وكان أن دُحروا ثانية، وحضر الإنجليز من جديد لأخذ جثث قتلاهم، أما المعركة الثالثة فقد كانت يوم 13/5/1948، حيث بدأوا هجومهم على القرية في الساعة الثانية صباحاً، واجتمع في هذا الهجوم قوات من الأرغون وشتيرن والهجاناه والبالماخ كما عرفت فيما بعد، ومع ذلك فقد دحروا حتى حواكير البلد، وحتى حدود أبو سْويرح، وهي منطقة تبعد عن بشيت بما لا يقل عن 5كم، وفي الصباح حيث كانت القرية تواصل دحرهم بإتجاه الغرب، سقطت قرية بيت دراس وهي إلى الجنوب من بشيت، وفوجئ المناضلون أن قوات دعم يهودية تأتي من بيت دراس في عدة باصات مصفحة، عندما وصلت هذه انقلب ميزان القوى.
لم يدافع عن القرية أهلها فحسب، فقد كان العديد من شهداء هذه المعركة من القرى المجاورة والمحيطة خاصة من يبنا ، من قطرة ، من المغار، من المسمية، من برقة، من القبيبة، وبالرغم من وصول النجدات، حسمت المعركة لغير صالح القرية، ففي هذه المرحلة تم ولأول مرة استعمال أسلحة متطورة، مثل الهاونات ورشاشات هشكوس وهي صفقة السلاح التشيكي بالتمويل المالي اليهودي العالمي عامة والأمريكي خاصة. حين أخذ الميزان في الميلان، كان الجو النفسي المهيمن على القرية سوداوياً، وأن دير ياسين جديدة ستقع، دير ياسين حسمت ضدنا الكثير نفسياً، وكان ذلك بجريمة الأنظمة العربية، وغباء الزعامة الفلسطينية آنذاك، كانت دير ياسين رسالة موجهة، من أجل تحقيق الفكرة الصهيونية القائلة بلاد بلا عباد، فهذه هي النظرية الأساسية في الفكر الصهيوني، إن وعي شعبنا لهذه الأساسية، جعلت قرية مثل قريتنا تتشبث في الأرض، ورأت أن موتها في الأرض حياة، لكن ماذا يمكن أن تفعل قرية وحيدة !.
في هذه المعركة استشهد أبي؛ أخبرني العم محمد الحمامي "أبو عدنان"، إنه كان يقود الثوار، وأن الصهاينة قد استخدموا مدافع الهاون وبكثرة ولأول مرة؛ فاستشهد الكثير من المناضلين، وطلب من الباقين الانسحاب ووقع العديد من الشهداء المدنيين وقصفت القرية، وظل هو وأبو عدنان يقاتلان حتى الطلقة الأخيرة، فأصيبا في مواقع عديدة من جسديهما، أبي مات، وأبو عدنان ظل ينبض وحسبوه ميتا، حين وصلوا إليهما، أفرغوا رصاصات كثيرة في جثة والدي وهكذا بعد الاستشهاد تأتي عملية الانتقام، انتقام حاقد، ظل ما رواه عمي "أبو عدنان" محمد الحمامي في ذهني، إلا أنه حين توفّـر لي فيما بعد أثناء ممارستي العمل الفدائي أن أحقد، رفضت الحقد، وبقيتُ على مخلصاً للتعاليم الثورية الوطنية التي ترفض ممارسة الحقد.
خلسة ذهب عمي يوسف والعم عبد السلام زيدان والعم عبد القادر أبو هاشم وآخرين لإحضار جثمانه من أرض المعركة، واستقبلت بشيت شهيدها، حيث دفن في مقبرة مقام ديني قديم، يعتبره أهل القرية مقدساً، ويعود كما تقول الأسطورة إلى النبي شيت أبن آدم (الثالث)، وإليه يعود أسم القرية "بيت النبي شيت"، لكنه في العامية بشيت؛ لا زال قبر أبي هناك، في ذلك المقام الديني القديم.
كانت عملية "داني" الإسم الرمزي الموحي بالبراءة للهجوم على مدينتي اللد والرملة الواقعتين في منتصف الطريق بين يافا والقدس؛ في 10 تموز/ يوليو من عام 1948 عيّن بن غوريون يغال ألون قائداً للهجوم على مدينتي اللد والرملة، وإسحق رابين نائباً له وأمر ألون بقصف المدينة من الجو وكانت أول مدينة تهاجم على هذا النحو، وتبع القصف هجوم مباشر على وسط المدينة، تسبب بمغادرة بقايا متطوعي جيش الإنقاذ المرابطين بالقرب من المدينة التي تلقت الأوامر بالانسحاب من قائدها البريطاني غلوب باشا.
إثر تخلي المتطوعين وجنود الفيلق العربي عن سكان اللد احتمى رجال المدينة المتسلحين ببعض البنادق العتيقة، بمسجد دهمش وسط المدينة، وبعد ساعات من القتال نفدت ذخيرتهم واضطروا للإستسلام، لكن القوات الصهيونية المهاجمة أبادتهم داخل المسجد المذكور.
بدأ الهجوم الصهيوني على اللد والرملة يوم 9/7/1948، وسعى الصهاينة إلى عزل المدينتين عن أي مساعدة تأتي من الشرق، فتقدم إلى شرقي اللد والرملة لواءان أحدهما من الجنوب، حيث دخل قرية (عنّابة) في الساعة الواحدة من فجر 10 تموز/ يوليو ثم قرية جمزد، وثانيهما من جهة تل أبيب في الشمال الغربي، وقد احتل هذا اللواء (ولهمينا) ثم مطار اللد، وباحتلاله عزلت سرية الجيش الأردني في (الرملة والعباسية واليهودية)، وهكذا اكتمل تطويق المدينتين وعزلهما ولم يستطع المقاتلون في القرى المذكورة ومطار اللد الصمود أمام الهجمات من قبل الدبابات والمدفعية المنسقة.
تعرضت المدينتان في أثناء ذلك لقصف جوي ثقيل وجه إلى مركز شرطة الرملة خاصة، وإلى قصف مدفعي شمال الأحياء الآهلة بالسكان؛ استمر ضغط الصهاينة على امتداد واجهة القتال وركزوا هجومهم على مدينة اللد أولاً، فشنّوا عند الظهر هجوماً قوياً عليها من الناحية الشرقية عند قرية دانيال، لكن مجاهدي المدينة استطاعوا أن يصدّوا الهجوم بعد معركة دامت ساعة ونصف خسر الصهاينة فيها 60 قتيلاً، وعاد المجاهدون وقد نفد عتادهم؛ ثم شن الصهاينة هجوماً آخر بقوات أكبر تدعمها المدرعات وتمكنوا في الساعة 16 تقريباً من دخول اللد واحتلالها وهم يطلقون النار على الأهالي دون تمييز.
بعد ذلك اخترقت فصيلة تابعة للجيش الأردني مدينة اللد التي كانت قد استسلمت للكتيبة الثالثة التابعة للواء يفتاح في البالماح؛ وفي أعقاب الاختراق ارتفعت معنويات سكان المدينة، ومن أجل إخمادهم ومنعهم من التحرك، صدرت الأوامر للإرهابيين الصهاينة بإطلاق النار الكثيفة على جميع من وجد في الشوارع؛ وخلال بضع ساعات وبموجب تقدير قائد اللواء في المعركة أنه قتل 250 فلسطينياً؛ فكانت أبشع مجزرة وأسرعها وقتاً، غير أن الإعلام العربي لم يركز عليها.
وفي تقريره الذي قدمه مولاي كوهين عن المجازر التي وقعت في مدينة اللد اعترف فيه بوجود فظائع كئيبة، ودوّن ذلك في كتاب البلماح: لا شك في أن قضية اللد والرملة وهرب السكان والتمرد الذي جاء في أعقابها قد وصلت فيها وحشية الحرب إلى ذروتها. ضحايا المجازر من مدينتي اللد والرملة في تقديرات نهائية للمجزرة بلغ عددهم 426 شهيداً منهم 176 قتيلاً في مسجد دهمش في المدينة، وفي رواية أخرى بلغوا 335 شهيداً 80 منهم في مسجد دهمش.
عالم الاجتماع "سليم تماري" نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية نقلاً عن شهود مجزرة اللد منهم (إسبر منيّر) الذي كان يعمل ممرضاً مع الدكتور جورج حبش وصف المجزرة في جامع دهمش وحالات الطرد الجماعي لخمسين ألف فلسطيني في مدينتي اللد والرملة وحالات النهب والسرقة والجثث المكوّمة على الطرقات والجرحى الذين كانوا يحضرون ولا مسعف لهم.
"كيث ويلر" من صحيفة شيكاغو صن تايمز كتب: عملياً كل شيء في طريق القوات الإسرائيلية أدركه الموت في مدينة اللد، حيث كانت تقبع على جانبي الطريق جثث مثقوبة بالرصاص. أما "كينيث بيلبي" من صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون قال إنه شاهد جثث رجال ونساء وأطفال عرب متناثرة هنا وهناك في أثر هجوم متألق لا رحمة فيه.
حزنا ورثاء لنكبتنا كتب الشاعر لطفي الياسيني بكائية على قرى قضاء الرملة المدمرة عام 48 :
يا ريح سلم لي .......على ابو الفضل
على ابو شوشة .. البرج بيت سوسين
على ادنبة ..... برفيليا ...... ام كلخة
البرية ..... على بشيت ..... ام معين
على بيت جيز ....... على بيت شنة
على بيت نبالا .... على وادي حنين
سلم ع التينة ......... خربة بيت فار
على جليا ... على جلجوليا سيرين
سلم على خلدة .... سلم على دانيال
على دير ايوب .... زرنوقة ونمرين
على سلبيت ... شلتا ..... على شحمه
على صرفند ...... على دير ياسين
على دير طريف على دير محيسن
صرفند العمار ... سلم على صيدون
عاقر .... عنابة .. القباب.. القبيبة
قزازة ... فطرة اسلام .. وحطين
قولة ( قولية ) - الكنيسة - المخيزن -
على المغار - المنصورة - نعلين
على النعاني .. المزيرعة على جلدة
جمزو .... عجنجول .. ع النبي روبين
على بيت قار .. سجد .. مجدل يابا
على يبنا على الرملة على زرعين
على فلسطين .... شرقها مع غربها
على الشمال .... سلم على سخنين
على عرابة ........ سلم على غربها
على ام العمد .... مسحة ... عبلين
على ابو سنان .... يركا على الرامة
وادي سلامة ..... على فلسطين
ثالثاً: اللجوء إلى غزة .
يواصل أبو علي شاهين سرد قصة لجوئه مع من تبقى من العائلة إلى غزة، بحثا عن مساحة أمان من جرائم العصابات الصهيونية فيقول:
بعد أن تجاوزنا بلدة يبنا سيراً على الأقدام عبرنا وادي سكرير(صقرير)، كنت فرحاً وأنا أخطو على الرمل الناعم، والماء رقراق، لم أكن أعرف أنني أهاجر، ووصلنا إلى أسدود، في أسدود أذكر الجيش المصري هناك، كان الجنود ينادونني وأقراني يعطوننا خبزاً وحلاوة، فيما بعد حدثت معركة أسدود الأخيرة، مازلت أذكرها حتى الآن، أتذكر الرصاص في الليل وهو يضيء الفضاء، أخذنا عمي أحمد واتجهنا نحو الغرب، حيث وصلنا شط البحر، ومن هناك إلى الجوره أو عسقلان، عسقلان البحر، وفي عسقلان كنا نتمنى أن نرى الخبز، فليس غير التمر طعاماً، تمر مليء بالسوس، أذكر في عسقلان أن أطفالاً كثيرين كانوا يموتون، لم أكن أفهم آنذاك لماذا يموتون، إلا أنني الآن أذكر كم كانوا يموتون! حين كبرت عرفت أن أطفالنا كانوا يموتون من الجوع وإنعدام العناية الصحية، فأي مرض يصيب ألاطفال كانت مضاعفاته تؤدي إلى الموت.
بدأت الجيوش العربية تأخذ السلاح من المناضلين، وتعطيهم إيصالاً بذلك، لقد جردوا الفلسطينيين إذن من الأسلحة، وكانت الطائرات تأتي وتقصف، أذكر أن طائرة وقعت في البحر، والطيار اسمه أبو زيد وهو من الضباط المصريين الأحرار، عرفت ذلك فيما بعد من كتاب ( لطفي واكد)، وعرفت أنه من الطيارين القلائل الذين استطاعوا أن يصلوا إلى تل أبيب ويقصفوها من مطار العريش، بعد ذلك وصلنا غزة مروراً بالمجدل.
وصلت العائلة إلى رفح في بداية عام 1949 بعد عملية تشريد غير عادية، كانت أمي حاملاً ، ولدت أخي الصغير في شبه العراء، تحت ركبة صبره بجوار سكة الحديد/خان يونس، أذكر الخيمة التي عشت فيها، ذات العامود الواحد، هذه الخيمة مرسومة في ذهني، وهي تلعب دوراً في أحاسيسي وفي تحركي حتى الآن، لقد كبرت معي معاناة الخيمة، أخذت أفكر كيف يمكن وضع حد لمعاناة الإنسان الفلسطيني والخيمة، انتبهت إلى أن المخيمات تحمل أسماء القرى التي غادرناها، هذا مخيم بشيت، مخيم يبنا، مخيم المغار، مخيم عاقر ..الخ، وكأن قرانا نزحت معنا أيضا، هكذا ظل إسم القرية موجوداً، ذلك يعني أن الوعي الوطني مقيم في العقل الباطن، أهل الأندلس حملوا مفاتيح البيوت، أما نحن فقد حملنا أسماء القرى، ولعل ذلك أكثر ما يخيف ويصيب الصهيونية بالذعر، يعني أن شعبنا غادر الأرض كواقع، ولكنه بقي يعيش القرية، وفلسطين كمعنى هذا ما استوقفني بعد عملية دلال المغربي، وقلت: كم أن دلال المغربي عظيمة، فبن غوريون الذي لا يفهم من لغات التاريخ ولغة العصر إلا منطق الفاشية وقانون الغاب القوة الداروينية، فإنه قد حلّ القضية الفلسطينية بجملة من أربع كلمات حسب قوانين العنصرية إذ قال: الكبير يموت والصغير ينسى، لكن دلال المغربي التي ولدت خارج فلسطين، أتت، وكانت قد عاشت فلسطين بالمعنى ولم تعشها في الواقع، عاشتها بالحلم ولم تعشها بالجغرافيا والممارسة اليومية، أتت لتصفع بن غوريون، ولتؤكد أن فلسطين التي تعيشها بالمعنى هي فلسطين التي يجب أن نعيشها غداً بالواقع؛ أتت دلال المناضلة تقود دورية قتالية في عمق فلسطين ولتهز الكيان الصهيوني من أعماقه كما لم يهز إلا قليلاً.
في رفح وكنت ما أزال طفلاً امتلكت أول كتاب في حياتي وهو كتاب " حقائق عن قضية فلسطين "، وعلقت على جدار البيت صورة لعبد القادر الحسيني، وهو متمنطق بالسلاح، ولأول مرة في حياتي أحسست أنني أمتلك شيئاً عظيماً، في تلك المرحلة كان الشباب الكبار، يدخلون خفية إلى الأرض المحتلة، وكانوا يسمون بالمتسللين، كان هؤلاء يفتنونني، عرفت فيما بعد واحداً منهم ويدعى محيسن، عينته الحكومة حارساً لكراج الحاكم كشرطي لتكتفي شره، كان عمله أن يحمل رشاشاً ويقف، هذا الرجل كان يستوقفني دائماً كلما مررت عنه، كنت أرى فيه أسطورة، بدوي أسمر ومسلح، ولا أحد مثله في رفح، هكذا انجذبت إلى رشاش محيسن، كنت أتمنى أن ألمس رشاشه يوماً، لكن كيف أستطيع أن أقترب من الأسطورة!.
جاء يوم، وكان الوقت عصراً، مررت عليه وقلت له: مساء الخير، رد علي وقال: تفضل، تعال؛ أجفلت لكني تقدمت، قال لي: ماذا تريد؟ قلت: أن ألمس الرشاش هذا؛ ضحك محيسن وربت على ظهري بحنان، وأمسكني الرشاش، ووضعه على كتفي، كان ثقيلاً، وله مقبضان، ثم أمسكته بيدي، وقلت له: من أين هذا؟ قال لي: من الداخل، يعني من فلسطين، وهكذا صار بيننا نوع من الحنان، وصرت كلما أمر عنه أرد عليه السلام.
محيسن هذا أثر بي، أكثر من كل أساتذة المدرسة، كذلك المظاهرات التي كنت أشارك بها في القطاع، والتي توطدت معرفتي من خلالها مع الأستاذ محمد يوسف النجار كأحد الرموز النضالية البارزة في تلك الفترة، أذكر أني سألته مرة، لماذا يدك هكذا ( وكانت كما معروف مقطوعة)، وماذا حصل لها؟ ضحك وطبطب على ظهري وقال: حين تكبر تعرف، وحين كبرت التقينا معاً في قطر، لكن لم أسأله عن يده.
المرة الأولى التي رأيت فيها جندياً يهودياً صهيونياً، كانت أثناء العدوان الثلاثي، كنت وأخي الكبير قد إلتجأنا من القصف باتجاه كثبان الرمل على الشاطئ، بعد إنتهاء القصف عدنا إلى البيت وكنا في سيارة، وفجأة حين وصلنا مخيم بربره، أطلت علينا سيارتان للجنود الصهاينة، أمرونا بالوقوف وقفنا، أنزلونا من السيارة، سيطر على ذهني أن أخي سيقتل، كنت خائفاً عليه، وفتشونا بسرعة، بعد زوال الصدمة الأولى لم أعد أشعر بالموت، نظرت إلى السلاح في أيديهم رأيتهم شباباً، مثلي أو أكبر بقليل، أنا أعزل وهم مسلحون، يد أحدهم كانت مجروحة ومعصوبة، والإصابة حديثة، وأثر الدم واضح عليها، لم يطلقوا على أحد، أخذوا السيارة وصرخوا فينا: أذهبوا بسرعة إلى بيوتكم ولم يعيدوا السيارة إلى أصحابها.
ركض الجميع، وركضنا عائدين إلى البيت، كان علينا أن نقطع شارعاً أمام المركز حيث يتجمع فيه الجنود، أوقفت أخي وقلت: سأحاول فإذا عبرت أشير لك، وإذا لم أعبر وقتلوني إرجع أنت؛ وافق أخي وعبرت، لم أر أحداً، ووصلنا البيت.
بعد أيام قليلة وفي مكان النقطة التي عبرت منها أنا وأخي، مر شاب فلسطيني في مقتبل العمر، فاستوقفه جندي صهيوني، توقف وكان الشاب يرفع يديه، سأله أين ذاهب، فرد الشاب بالعبرية إلى البيت، وإذا بالجندي يطلق عليه النار، ويقتله، ظل الشاب ملقى على الأرض لثلاثة أيام، كانوا فرضوا علينا منع التجول، وكنا نشاهد جثته من بيتنا، حين إنفك منع التجول، ذهبنا إلى الجثة، سبقت عمي إليها، وسألته: لماذا قتلوا الشاب؟ فرد علي بحنق: هؤلاء لم يقتلوه، الذي قتله هو الذي انسحب، وتركه بلا بندقية، لم يُعرف أهل لهذا الشاب، سألنا كثيراً بلا فائدة، أحضرنا كاره وحملناه، ثم دفناه بسرعة، لا، فك التجول لمدة ساعة فقط، وبيتنا بجوار مركز الحاكم العسكري .
بعد مدة طويلة، جاء أهله وسألوا، وقلت لهم أنا رأيته وعرفنا منهم أنه كان بدوياً من عرب السبع، كان يعيش في يافا قبل عام 1948، وكان واعياً، ويعرف بعض الكلمات بالعبرية، أخذتهم إلى القبر، وقلت: هنا دفناه، وحكيت لهم كيف قتل.
كان ليدي، كبير، سألني من أين أنا وماذا يعمل أبي، أخبرته أن أبي شهيد، وإذا به يقول بجدية كاملة: عاهدني أن تثأر لهما. مددت يدي، وعاهدت ذلك الرجل الذي لا أعرف أسمه حتى الآن، وما زلت على ذلك العهد وتوجه في الصباح شمالاً وتوجهت غرباً إلى بيتنا، لأن دقائق منع التجول بدأت بالنفاذ.
قال عمي ذات ليلة: حين يولد حزب فلسطيني ولا تنتمي إليه تكون جباناً، أثَّر ذلك فيَ، وأخذت انتظر الولادة. إنتهى العدوان الثلاثي، لكن صور القتل ظلت مرسومة في ذهني، صورة رشاش البرن الانجليزي الموضوع على مثلث طرق، وهو يحصد الناس ببساطة بالغة، والناس تسقط وتستشهد، ثم يأتي آخرون ويحملون الجثث إرهاب رسمي فمنهج إرهاب العنف الدموي " إرهاب الدولة " عرفت معنى القتل بدم بارد، ودون أن يرتعش للقاتل جفناً وكيف يتم قتل الأبرياء وبحماس ومزايدة ومنافسة بين القتلة !، في ذلك الوقت عرفت أن الصهيونية هي سبب كل بلاء في حياتنا، من حزن وقتل وألم، ولا ينفع معها غير النار، لقد قتلوا كثيرين أعرفهم، قتلوا ذلك البدوي الذي رأيته، وقتلوا أصحابي وهم يرفعون أيديهم متجهين نحو المدرسة الأميرية في رفح، ويمكن القول إن العدوان الثلاثي خلف لدى الكثيرين مثلي إرادة التوجه نحو العنف الثوري المسلح ولا شيء غير العنف الثوري المسلح كأسلوب مواجهة مع هذه الحركة، الحركة الصهيونية.
الفصل الثاني / إطلاق المشروع النضالي للحركة الأسيرة
" إن الانتصار في معارك الحركة الاعقتالية ليس انتصاراً عضلياً، إنه انتصار قوة الإرادة فقط أمام إرادة القوة، ولعل أقسى أنواع الانتصارات يجيء حين تكون أعزلاً من كل سلاح، إلا من هذه الإرادة، فلا بد أن تنتصر بها، وعليك أن تنتصر بلحمك العاري، ولم يكن ذلك بالأمر البسيط علينا".
لعل هذا القول الساخر من قوة الحديد، وبطشها الضاري، يرشدنا الى بداية الطريق الامثل للدخول الى عالم عبد العزيز شاهين، والى الامساك بطرف خيط أخر لسبر غور أعماقه، كقائدا ومؤسسا لحركة المقاومة الاعتقالية داخل السجون الإسرائيلية، لنكتشف لاحقا بان تمكن أبو على شاهين من الإبداع في بناء وتأسيس حركة المقاومة الاعتقالية كان محصلة لحالة عشق مختلفة ونادرة بين الفكرة ومصممها ، فتعامل أبو على مع فكرة بعث الحركة الاعتقالية المقاومة ، كمولود أنجب على راحتيه ، وغراس خضر أورقت بين يديه أسقاها من فيض فكره المتدفق ، المعزز بعشرات الأفكار والمواقف المساندة والداعمة له من مئات الاسرى والمناضلين داخل قلاع الأسر ، الى أن اصلب عود تلك الغراس واستوت على سوقها ، فكانت غلالها طيبة من نبع ومنبت طيبان أورث الحركة الأسيرة انتصارات تلو أخرى مكللة بالدم والعرق.
على هذا النحو كانت علاقة أبو علي شاهين بالحركة الأسيره، ولعل أبو علي قدم لنا بهذا البوح الإنساني الجياش تفسيراً ما لحالة التدفق الهائل في عطائه التي عاش تفاصيلها منذ اللحظة الأولى لدخوله الأسر إلى اللحظة الأخيرة لوجوده فيه، طوال الخمسة عشر عاماً التي أمضاها في سجون الاحتلال، لقد كان أبو على شاهين وفقاً لوصف معاصريه من قاده الحركة الأسيرة، قائداً بمواصفات اسطوريه بكل ما في هذا الوصف من دلالات إنسانية ووطنية وتاريخية.
لقد توزع دور هذا الرجل من الاهتمام بالأسرى حديثي الاعتقال وشد أزرهم ورفع معنوياتهم وتثقيفهم إلى غسل ملابسهم بيديه، إلى الانعزال في زاوية الزنزانة ليكتب أجمل وأعمق ما عرفته المقاومة العالمية داخل السجون من أدبيات وإبداعات فكرية ترقى إلى مصافي الرؤى والأفكار والنظريات النضالية العابرة للزمن والمقاومة للفناء والصالحة لكل عصر وجد فيه الظالم والمظلوم، الاستعمار والثورة، الاستبداد والانعتاق .
لقد أسس أبو على شاهين بخبرته العملية التجريبية وإبداعه الفكري الخلاق، طرقاً ونظريات ووسائل وتكتيكات المواجهة خلف القضبان، وأكد للأسرى الفلسطينيون بأن لأجسادهم العارية قوة تضاهي قوة الرصاص في حسم المعارك والانتصار بها، منطلقاً في ذلك من إدراكه النضالي المبكر للحقيقة القائلة " إن الحركة الصهيونية حركة قوية جداً يجب علينا أن نعترف بذلك، ولا يمكن أن ننتصر عليها ما لم نكن أقوى منها، فالضعيف لا ينتصر وقوة الحركة الصهيونية متمثلة في محصلة قوتها المادية، أما قوتنا فينبغي أن تكون كامنة في قوة إنساننا، هذا هو الفرق بيننا وبينهم، العدو قوته مادية، وأنت قوتك معنوية، يعني أنك تتفوق عليه معنوياً، لكن كيف يمكن أن تشحن هذه القوة المعنوية لتصبح طاقة قادرة ومؤثرة في قوته المادية، كيف تعزل العدو عن قوته المادية، وتفقده هذه السيطرة التي يتمتع بها ".
في مقدمة تلك الوسائل المعنوية سلاح الإضراب عن الطعام، حيث قاد أبو على شاهين الأسرى الفلسطينيين في أول إضراب عن الطعام عرفته السجون الإسرائيلية في العام 1970م، وفي سجن عسقلان أيضا شارك في قيادة أطول إضراب عن الطعام 11/12/1976 والذي استمر لمدة 45 يوماً، فعاقبته إدارة السجون بنقله إلى العديد من السجون الأخرى وعزله في " زنازين الحبس الانفرادي " لفترات طويلة، واستقر مع قيادة الإضراب في سجن شطا، ثم نقل إلى سجن نفحة الصحراوي الرهيب عند افتتاحه في منتصف 1980م، وكان الأسير الفلسطيني الأول الذي تطأ قدماه أرض ذاك السجن، حيث قام ثانية بقيادة إضراب بطولي عن الطعام دام ثلاثة وثلاثين يوماً، استشهد خلاله الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري، ولاحقاً استشهد الأسير إسحاق المرغي، ونُقل من السجن قبل الإعلان عن الإضراب بيوم، ومع ذلك بقي قائد الإضراب الفعلي والمعنوي.
وقد اتسع نطاق ذاك الإضراب ليشمل كافة المعتقلات الصهيونية، ومدن الضفة والقطاع، مع مشاركة فعّالة ولأول مرة للقيادة الفلسطينية في بيروت، وشهدت قاعات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن نقاشات صاخبة ومواجهات دبلوماسية حامية قادتها العربية السعودية حينذاك، وكان مطلب الأسرى في هذا الإضراب تحسين شروط وظروف الاعتقال رافعين شعار " نعم لألالم للجوع ،لا وألف لا لألالم الذل والركوع "، ونقل أبو علي من معتقل نفحة إلى معتقل "شطة" حيث تعرض هناك لاعتداءات فظيعة من السجانين اليهود، إقتضت معالجته طبياً .
وفي التقرير الخاص الذي أعده مدير مصلحة السجون الإسرائيلية في العام 1982م، والمُقدم للمستويين الأمني والسياسي الإسرائيليين، وذلك قبيل الإفراج عن أبو على شاهين بفترة وجيزة، وجدت الفقرة التالية: [ في فترة وجوده في السجن، تمكن عبد العزيز شاهين من أن يبلور لنفسه مكاناً ونفوذاً كبيرين، كأحد قادة " فتح" و" الفدائيين " عامة؛ وعلى امتداد فترة سجنه وبالذات في السنوات الست الأخيرة، برز نفوذ وتأثير أبو علي شاهين على السجناء الفلسطينيين، فإيعازاته وتوجيهاته تحتل مكانة هامة في حياة السجناء، الذين يستشيرونه ويقدمون له التقارير عن كل ما يجري، ويكنون له احتراماً كبيراً ].
وفقاً لهذا المنظور يتضمن هذا الجزء العمل النضالي والتنظيمي لأبو علي شاهين خلال مرحلة الاعتقال؛ فيتضمن بداية النشاط التنظيمي، مساهمته في تطوير العمل التنظيمي في السجون، المحاكمة، الإضراب عن الطعام كوسيلة للمواجهة داخل الأسر، الأمراض تغزو المعتقل رحلته في سجن عسقلان.
أولاً: بداية النشاط التنظيمي .
في سجن الرملة بدأنا أول نشاط تنظيمي، لكنا كنا نعاني باستمرار من مسألة غير صحية، وهي اعتناق العديد من الأسرى لوصفة الجهوية والفئوية ذات الأفق الضيق كأساس لإقامة العلاقات بين الأسرى، وهذه الآفة لا تنظر للقضية إلا عبر هذا الشق الصغير الذي هو نتاج تربية حزبية برجوازية واضحة جداً، لم تكن هذه العقلية قادرة على فهم النقلة النوعية ما بين التربية والحزبية البرجوازية، وما بين التربية الوطنية الثورية، فمنصوص التربية الأولى إن كل ما عداك خطأ، كل ما عداك بينك وبينه نسبة معينة من التناقض والتناحر، أما التربية الوطنية الثورية فتقول بمعادلة الكل الوطني، وتعي مرحلة التحرر الوطني وتضع الجميع في المركب الوطني، وقد كنا نتفاهم على هذه الأرضية، لكننا كنا نواجه بالأفق التنظيمي الضيق، أو الفئوي الضيق، كما كان التنظير الفوقي يسيء إلى الكثير من الشباب المقاتلين ممن اعتقلوا، إساءة طالت مسيرة هؤلاء، وكان ذلك واضحاً.
لقد أدعى البعض بأن لديه تجربة سابقة في المعتقلات العربية، ولكن عندما جاء إلى تجربة المعتقلات الإسرائيلية مُني بالفشل، ذلك لأن الظروف الذاتية والموضوعية كانت مختلفة، وبالتالي فتجربة المعتقلات الإسرائيلية تعتبر تجربة جديدة كل الجدة، وكان علينا جميعاً أن نضع قواعدها وأن نتناكب كتفاً بكتف، ونتكافل ونتعاضد لبناء قواد سليمة وقوية من العمل الاعتقالي، خاصة وأن الرؤيا لدى من يعي الحركة الصهيونية والصراع العربي الصهيوني كانت ترى أن رحلة الاعتقال طويلة، بينما كان يرى البعض الآخر أن سقف هذه الرحلة هو العام 1970، وإن تشاءم فعام 1975، وكان من الطبيعي أن نرى رحلة الاعتقال هذه كجزء من الصراع العربي الصهيوني الذي سيطول ليس لسنين فقط ولكن لأجيال أيضاً، وهكذا يتضح أن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى النتائج الصحيحة.
لقد بدأنا في نقاشات موسعة تحددت أطروحاتها في أن حركة الاعتقال هي نتاج مادي لتفاعل القضية الفلسطينية، والتي تشكل جزءاً من حركة الصراع العربي الصهيوني، وإن كانت مركزه أو جزئيته المركزية، ذلك أن الفكر الصهيوني ومطامعه المعروفة لا تتوقف عند حدود فلسطين، بقدر ما تشكل فلسطين نقطة مده واتساعه، فالصراع طويل، علاوة على أن المعادلة الدولية تؤكد استحالة إنهاء الصراع العربي الصهيوني بجرة قلم، من هنا كانت رؤيتنا تستمد هذه الضرورة، ضرورة بناء واقع اعتقالي يستطيع الصمود أمام هذه الهجمة الصهيونية، رغم شدة القمع الممارس في السجون، خاصة القمع الجسماني، وآنذاك لم يكن القمع قد دخل مرحلة التنظيم، إضافة إلى أن الحركة الصهيونية بدأت بأجهزتها الاستخبارية والعليا تدرس هذا الواقع الاعتقالي وتفرز آليته.
كان العدو الصهيوني يريد من الواقع الاعتقالي أن يحيلنا إلى أرقام وكنا نرفض ذلك، ومن هنا بدا الصراع، وكان أمامنا تجارب حركات التحرر العالمية التي نجحت في تأطير إنسانها داخل المعتقلات، وكنا نجزم أن هذا التأطير سيتم بالنسبة لنا، وبدأنا ممارسة هذا التأطير، وهو ربط الإنسان المعتقل بالثورة داخل المعتقل، ذلك أن المعتقل الذي لا يمكن زرع الانضباط في أعماقه لا يمكن أن يكون معتقلاً سياسياً، ولعل أكثر ما واجهنا من صعوبة في هذا المضمار، هو كيف يمكن معاقبة من يخرج عن هذه الانضباطية داخل المعتقل، وطبيعي أن يتعذر ذلك، نظراً للواقع والمحيط الذي يشملنا جميعاً، لكن كان لا بد من البداية التي أخذت زمناً طويلاً عبر الحوار المفتوح والطويل والاقتناع هذه، وكنا في نضالنا اليومي نؤكد على المطالب الأساسية التي لا بد من تحقيقها لنا كمعتقلين، ولقد تمت الزيارة الأولى للصليب الأحمر لنا في شهر آذار 1968م وكنت أول من قابل هذه البعثة، ويذكر أن إسرائيل مانعت وما تزال تمانع في اتصال أي بعثة أو لجنة دولية بالمعتقلين، رغم أن الحركة الصهيونية تصر على أنها ديمقراطية.
لقد بدأنا عملية التأطير هذه، أي نقل التنظيم من الخارج إلى الداخل، أعني داخل المعتقلات، وكان على رأس من شارك في هذه العملية الأخ عبد الحميد القدسي، في سجن الرملة باعتباره كادراً تنظيمياً متقدماً، علاوة على تجربته الاعتقالية السابقة، وقد رافق كل ذلك عمل تثقيفي قصد التوعية بالتاريخ الفلسطيني وتجارب الثورات العالمية، فكانت النقاشات التي شملت بعض الأوضاع السياسية، والثورة، وتاريخ تأسيس الحركة، والأحزاب العربية، وبديهي أن حملة التوعية هذه قد بدأت بشكل مبسط ليسهل استيعابه من قبل الفئات العادية من شبابنا والتي لم تحظ بفرصة التعليم، وقد بدأ نوع من التركيز على فئة من الشباب بدت متحمسة ولديها ثابت وطني وثوري، وكان أغلب هؤلاء ممن صمدوا في التحقيق، وسرعان ما أحست إدارة السجن بدبيب هذا النشاط، فعملت على نقلي إلى سجن الخليل، وهناك واصلت مع الإخوة طرح المطالب الإنسانية التي لا بد من توفرها، وبعد شهور نجحنا في أن يكون في المعتقل مذياع ووعدنا بالجريدة.
في سجن الخليل كنا نستطيع أن نلتقي بالشباب الذين يدخلون السجن، ونتحدث إليهم، وكان ذلك قبل أن يوجد هناك قسم التحقيق والحجز، فكنا نخوض معهم أحاديث كثيرة، حيث نكشف لهم دور المخابرات وعملها وأساليبها التي توقع من خلالها المعتقل، فمن كان يصل قبل الاعتراف، كنا نحصنه على عدم الاعتراف فكان ينجو من الحكم، ومن كان يصل بعد تقديم اعتراف للمخابرات أو الشرطة، كنا نعرف كيف نوقفه عند هذا الحد من الاعتراف وأن لا يتجاوزه، والبعض كنا نطالبهم برفض الاعتراف المقدم وإنكاره باعتباره كان نتيجة لشدة الضرب، كما حصل مع مجموعة من الطلبة كانوا قد اعترفوا وسحبوا اعترافهم، وكان ذلك سبباً في نقلي من سجن الخليل إلى سجن نابلس.
ثانياً: تطور العمل التنظيمي في سجن نابلس .
يعود تاريخ أول إستحداث تنظيمي في تجربة الاعتقال الصهيوني إلى شهر ديسمبر/كانون أول في سجن نابلس، حيث كان يضم في تلك الفترة حوالي الألف سجين بين موقوف وإداري محكوم؛ لقد تم ترتيب الأوضاع وتوزيع المهام والمراتب التنظيمية، وتبدأ من الخلية بموجه الغرفة في الغرفة، لجنة للمردوان، لجنة للسجن، لجنة مركزية للسجن، موجه عام، كل هذه الترتيبات استحدثت في سجن نابلس، كان العمل جديداً، ومثل هذه التجربة كانت تحتاج إلى متابعة متواصلة من أجل بناء وتكريس تربية وطنية للاستمرار في الثورةكلمات
لارسال مواد واخبار لموقع قسماوي نت البريد: info@kasmawi.net
اضف تعقيب