نشرت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية مقالا لكبير محرريها في شؤون الشرق الاوسط إيان بلاك بعث به من مدينة تل ابيب الاسرائيلية يتحدث فيه عن جهود لتعليم الاسرائيليين اليهود من خلال رحلات داخلية في فلسطين التاريخية ومن خلال تطبيق هاتفي جديد عن تاريخ البلاد الذي اخفته العداوة وطمسه الانكار. وفي ما يلي نص التقرير:
"في مكتب متواضع في وسط تل ابيب المزدحم تعمل مجموعة من الاسرائيليين على وضع اللمسات الاخيرة لعطلة عيد الاستقلال (الاسرائيلي) هذا العام. لكن حديثهم - الذي يتحول من العربية الى العبرية وبالعكس - يتركز ليس على التحقيق التاريخي للحلم الصهيوني في ايار (مايو) 1948، وانما على الوجه الاخر من العملة الهرب، والطرد والتجريد من الممتلكات والحقوق، وهي الامور التي يطلق عليها الفلسطينيون اسم "النكبة".
هناك خرائط ونشرات وملصقات تشرح اهداف حملة "زوكورت"، وهي كلمة عبرية تعني "التذكير". اذ ان مهمة هذه المجموعة هي تثقيف اليهود الاسرائيليين بما تحمله دروس التاريخ التي حجبتها العداوة والدعاية والانكار لمعظم الاعوام الـ 66 الماضية.
في الاسبوع المقبل ستربط حملة "التذكير" التي تضم نشطاء يهودا وفلسطينيين، الماضي المرير بتكنولوجيا الحاضر الحديثة. وتوفر تطبيقاتها I-Nakba phone app الهاتفية لمستخدميها تحديد موقع اي قرية عربية فر منها اهلها خلال حرب الـ 1948 على خريطة تفاعلية والتعرف على تاريخها (بما في ذلك، وفي حالات كثيرة، الوجود اليهودي الذي حل محلها) اضافة الى صور فوتوغرافية وتعليقات وبيانات.
هذا كله جزء من جهود سياسية الى حد كبير ومثيرة للجدل بصورة لا مفر منها لازالة ما حجب عن الرؤيا من ارض وذكرى لعدة عقود، وهكذا فان ما يؤمل به هو بناء مستقبل افضل للشعبين اللذين يشتركان في بلاد مقسمة.
تقول رنين جريس، مديرة الاعلام في حملة "التذكير" ان "هناك تطبيقات لكل شيء هذه الايام. وهذا التطبيق يكشف عن الاماكن الذين ازيلت عن الخريطة. ويعني ذلك مثلا ان الفلسطينيين في (مخيم) عين الحلوة، وهو مخيم اللاجئين في لبنان، يمكنهم ان يتابعوا ما حدث للقرية التي جاءت منها عائلاتهم، في الجليل. وان يحصلوا على بلاغ في كل مرة يحصل فيها ما يستجد من اوضاع. انه مذهل".
ليس هناك خلاف على الوقائع الاساسية في صراع اشتهر بما صدر من تصريحات قومية متناقضة بشأنه، وان ظل الخلاف على الارقام. فخلال الفترة من تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، عندما صدر قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين التي كانت تحت الحكم البريطاني الى دولتين منفصلتين عربية ويهودية، ومنتصف العام 1949 عندما ظهرت اسرائيل منتصرة على اعدائها، جاء اخرون ليقيموا في ما بين 400 الى 500 قرية وبلدة عربية إما اخليت من سكانها ودمرت او تم احتلالها واطلقت عليها اسماء مختلفة. معظمها تُرِكَت حطاماً وانقاضاً.
منذ اواخر الثمانينات ازدادت مدارك المعرفة عندما استخدم مؤرخون اسرائيليون الارشيف الاسرائيلي الذي كان قد افتتح حديثا ليتفحصوا الفترة المصيرية. وتناقضت العناصر الرئيسية لهذا التاريخ الجديد مع العناصر القديمة، فالبيانات الرسمية والمؤكدة جزئيا، اكدت ما يقوله الفلسطينيون دوما – من ان القوات الاسرائيلية طردت الكثيرين من مساكنهم وانهم لم يفروا بناء على نصائح القادة العرب.
ولا تزال النقاشات الحامية على اشدها حول ما اذا كان ذلك قد جرى على اساس الامر الواقع باوامر من القادة العسكريين المحليين او بموجب خطة رئيسية للتطهير العرقي. وايا كانت النتيجة فانها تعتبر كارثية.
لقد اكسب تركيز حملة "التذكير" على المسألة الحساسة للـ 750 ألف فلسطيني الذين اصبحوا لاجئين، عداوة الاغلبية العظمى من اليهود الاسرائيليين الذين يرفضون رفضا قاطعا اي حق لعودة الفلسطينيين. فالسماح لهؤلاء اللاجئين، واحفادهم الذين يعدون سبعة ملايين نسمة، بالعودة الى يافا وحيفا او عكا سيقضي، كما تقول حججهم، على الاغلبية اليهوية، التي هي سبب ومبرر وجود المشروع الصهيوني. (كثيراً ما يعقد الاسرائيليون مقارنة بين ذلك ومع مئات الالاف من اللاجئين اليهود الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم في البلاد العربية مثل العراق والمغرب بعد 1948، رغم ان مغادرتهم كان نتيجة تشجيع وتسهيلات قدمتها الدولة الجديدة في الخمسينات).
وقالت ليات روزينبرغ، مديرة المنظمة غير الحكومية، ان "هناك الكثير من المنظمات الاسرائيلية التي تهتم بالاحتلال العام 1967، الا ان حملة "التذكير" هي الوحيدة التي تتعامل مع (ما حصل في) العام 1948. صحيح ان نفوذنا الى حد كبير غير محسوس، الا انه ليس هناك بين الاسرائيليين من لا يعرف كلمة النكبة. حتى انها دخلت ضمن اللغة العبرية، وهذا تقدم بحد ذاته".
وتعتقد روزينبرغ وزملاؤها دورات ويعدون وسائل تثقيفية للمدرسين، متجنبين محاولات تجريم اي نوع من احياء ذكرى النكبة. غير ان اساس اعمال حملة "التذكير" هو القيام بزيارات موجهة منتظمة تهدف، مثل تطبيقات الهاتف، الى وضع فلسطين مرة اخرى على الخريطة لتمهيد الطريق امام عودة اللاجئين.
وصباح يوم السبت اجتمع اخيرا عشرات من اليهود والعرب في محطة لتزويد السيارات بالوقود في الضواحي الجنوبية لمدينة القدس، وساروا في طريق ترابي الى قرية الولجة التي كان يقطنها الفا شخص وتعرضت للهجوم وطُرد سكانها عام 1948. اشار عمر الغباري، من حملة "التذكير" الى الاساسات الكونكريتية وهو كل ما بقي من احدى المدارس والى لوحة معدنية كتب عليها بالعربية والعبرية والانكليزية، قبل ان يقف استعدادا لالتقاط الصور.
ومن بين الذين تبعوه شيرين الاعرج، التي رأى والدها النور في الولجة وفر الى بيت جالا عبر ما ظل حتى 1967 خط الهدنة مع الاردن. قالت "لم اتخل قط عن فكرة عودتي الى الولجة". وتشترك شيرين في حملة ضد تمديد الجدار الفاصل في الضفة الغربية، وهو ما تصفه ويصفه الكثير من الفلسطينيين بانه استمرار للنكبة.
ومن بين المشتركين ايضا طارق الرمحي، وهو طبيب جراح اميركي نشأ في المملكة العربية السعودية لابوين فلسطينيين من اللاجئين. وشاركت ايضا مارينا، وهي عاملة اجتماعية يهودية، وصديقها تومر، وهو طالب في علوم الكومبيوتر. وفيما كانوا يتجولون بين الاطلال، لفت زوار ذلك اليوم غير العاديين اهتمام بعض النظرات الفضولية من اسرائيليين يستمتعون بيومهم على شرفات المنازل او يسبحون في بركة القرية – التي يطلق عليها الان اسم الشاب اليهودي الذي قتله الفلسطينيون في التسعينات. ودار جدال قوي بين كلير اورين، المدرسة، واثنين من الجنود خارج الخدمة لم يكونا على علم بماضي الولجة، او مدى استمرار سيطرة اسرائيل على الضفة الغربية.
على مقربة هناك عين كارم، اكثر جولات حملة "التذكير" شهرة، ولها قصة مختلفة. فقد هجرها الفلسطينيون في تموز (يوليو) 1948 وهي قريبة من قرية دير ياسين، التي شهدت اسوأ مذبحة في تلك الفترة)، وتزخر بكنائس ومسجد ومساكن مبنية من الحجارة النقية حول واد يغص بالزهور البرية في الربيع. وكان المهاجرون اليهود الفقراء المغاربة هم اول من سكن فيها بعد الحرب، ولكنها اجتذبت في سبعينات القرن الماضي سكاناً اكثر غنى، واضحت اليوم اكثر المناطق المرغوبة في ضواحي القدس الغربية.
في العام 1967، انتقل شلومو ابو لافية، المهندس الزراعي المتقاعد حاليا، الىبيت صغير من غرفتين حوله مع زوجته ميرا الى منزل بديع على الطراز العربي في حديقة جميلة. قام اقارب المالكين الاصليين بزيارتها من الاردن، ومثل غيره من اليهود الاسرائيليين الاخرين الذين يتوقون الى التعايش السلمي مع الفلسطينين، فان ابو لافية يؤمن بان من المهم ادراك مشاعر الطرف الاخر. وهو يشعر بقلق شديد تجاه مستقبل مسكنه المتواضع، ومستقبل ابنائه واحفاده.
ويقول ان "النكبة بالنسبة الينا شيء من الماضي، لكنها كارثة بالنسبة اليهم. ما الذي يمكن ان نفقده اذا اعترفنا بمعاناة الفلسطينيين؟ الجانبان يبتعدان اكثر فاكثر عن بعضهما. الناس يعيشون في رعب. وهناك الكثير من الانكار هنا".
اختفى الكثير من القرى العربية من دون اثر تحت حقول المجمعات اليهودية وبساتينها، وقام الصندوق القومي اليهودي بزراعة ضواح او غابات حول المدن. فاسدود العربية اصبحت اشدود الاسرائيلية. اما صفورية في الجليل تدعى الان زيبوري.
ويشير دليل زوكروت المكتوب باللغتين الى بقايا وآثار فلسطين العربية في كل انحاء البلاد – سواء كانت قطعا من جدار حجري، او سيقان شجيرات الصبار التي كانت تستخدم كسياجات، او اضرحة اولياء مسلمين مهملة. وكان نادي جامعة تل ابيب افخم منزل في (قرية) الشيخ مونس التي كانت قائمة في يوم من الايام على حافة المدينة اليهودية المتوسعة. ولم يبق شيء آخر. وتقع المنشية، احدى ضواحي يافا، تحت كورنيش تشارلز كلور على شاطىء البحر.
لطالما عبر الفلسطينيون عن حدادهم على ارضهم السليبة – ووثقوها في السنوات الاخيرة – بعناية مهووسة. ومن الناحية السياسية يظل حق العودة مطلباً مقدساً حتى مع ان قادة منظمة التحرير الفلسطينية كثيراً ما قالوا على صعيد خاص انهم لا يتوقعون ان ينفذ – الا بالنسبة الى اعداد رمزية – اذا اقيمت دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل واخرج المستوطنون اليهود من اراضيها. وقد اثار الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضجة في 2012 عندما قال انه لا يتوقع ان يتمكن من العودة الى مسقط رأسه مدينة صفد.
وقد كتب يهود اسرائيليون من امثال ميرون بنفينستي، ممن ترعرعوا في فلسطين تحت الحكم البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي، بحنين عن مشاهد الارض التي رأوها في طفولتهم.
وقال داني روبنشتاين، وهو كاتب وصحافي ولد في القدس: "انا ايضاً اتماثل مع القرى المدمرة. وانا اتفهم حنين الفلسطينيين واشدد عليه. لكنني اعتقد ان حملة التذكير خطأ. الفلسطينيون يعرفون، او قيادتهم تعرف، ان عليهم ان ينسوا الرملة، واللد ويافا. عباس يقول انه لا يستطيع العودة الى صفد. عليهم ان يتخلوا عن العودة كهدف قومي. لو كنت سياسياً فلسطينياً لقلت ان ليس عليك ان تتذكر. عليك ان تنسى".
ان الآمال بتحقيق حل على اساس دولتين للصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين تخبو الآن بعد انهيار احدث جهود الوساطة الاميركية، وقد صار التعاطف المتبادل سلعةً نادرة. ولكن كلير اورين تقول وهي تستريح في ظل بستان في ما كان ذات يوم وسط قرية الولجة ان مزيداً من المعرفة قد يساعد. وتوضح: "حتى لو صار اسرائيلي واحد اكثر وعياً بالنكبة واللاجئين الفلسطينيين، فان هذا مهم". وتضيف: "كلما زاد عدد الاسرائيليين الذين يتفهمون، زادت قدرتنا على منع وقوع نكبة اخرى في هذه الارض". -
لارسال مواد واخبار لموقع قسماوي نت البريد: info@kasmawi.net
اضف تعقيب