
الحلقة 2+3 من كتاب الدرر البهيّة من سيرة الدولة العليّة العثمانيّة المؤلف : أ.د. ابراهيم حسن أبوجابر

كتاب : الدرر البهيّة من سيرة الدولة العليّة العثمانيّة المؤلف : أ.د. ابراهيم حسن أبوجابر السنة : 2014م |
معاول هدم الخلافة العثمانية
"اليهود والماسونيّة والنّعرة القوميّة"(2/40)!!*
حاول اليهود والحركة الصهيونيّة العالميّة اقتناص موافقة السلاطين الأتراك -وأهمهم عبد الحميد الثاني- على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، لكن هذا لم يحصل، فقد أفشل العثمانيون كل محاولاتهم وإغراءاتهم الماديّة ورفضوا هداياهم الثمينة.
موقف الخلافة العثمانية هذا أثار حفيظة اليهود والصهاينة في العواصم الأوروبية تحديدًا، وجعلهم يفكّرون في حيلٍ ومؤامرات وخطط بديلة للتخلص منها وبأي ثمن كان؛فلم يتركوا وسيلة قذرة وغير قذرة إلا واستخدموها لتحقيق أهدافهم وطعن الخلافة العثمانية لإضعافها وتفكيكها، ليسهل تمرير مؤامراتهم وبرامجهم السوداء في المشرق الإسلامي، وللحصول على موضع قدم لهم في فلسطين، فانبروا منذ ذلك الحين يجنّدون وسائل إعلام غربيّة وغير غربيّة لصالح مطالبهم، ووُظّفت الحركة الماسونيّة العالميّة لاحتواء أنظمة وحكومات وشخصيات اعتباريّة غربيّة وشرقيّة وتجنيدها بأساليبها الخاصة خدمة للمشروع الصهيوني المرهون عدم إقامته ببقاء الخلافة العثمانيّة؛ فعلى مستوى العالم العربي التفت الحركة الصهيونية على الخلافة العثمانيّة وبدأت بالتفاوض مع العرب، "الشريف حسين"، وتعرض عليهم عروضًا مغرية، وبالأحرى شرعت في بيعهم سرابًا لا غير، وفعلا تمكّنوا بمساعدة الإنجليز من إقناع زعامة العرب بالوقوف في وجه الأتراك وطردهم من الأقاليم العربيّة بحجّة أنّهم السبب الرئيس في حالة التخلّف والفقر والأميّة، وهذا ما حصل؛ فقد تأسس ما عُرف بـ"الثورة العربية الكبرى"، وتمكنّت من خلال اصطفاف الأقاليم العربيّة إلى جانبها من مقارعة الجيش التركي ودحره بعدما ارتكب العرب في حقّه المجازر وأعمال السلب والنهب.
الاصطفاف العربي المذكور تمّ حقيقة بعدما رفضت القيادة العربيّة مشروعًا تركيًا اقترحه الخليفة عبد الحميد الثاني، دعا من خلاله إلى تشكيل جامعة إسلاميّة (رابطة الشعوب الاسلامية)للوقوف في وجه الحملات الغربيّة الاستعماريّة التي بدأت تهدّد الدولة من أطرافها، زاحفة نحو المركز لتقويض أركان الخلافة.
لا شك أن الرفض العربي هذا غذّاه الغرب الاستعماري، لا بل والحركة الصهيونية وأذرعها الماسونية الفاعلة في بعض العواصم العربية، فقدمت الإغراءات والوعود العرقوبية للزعامة العربية حينها، وعلى رأسها مشروع
"الدولة العربية الحرة" والهبات المالية، الأمر الذي تمثّل صداه بما أطلقوا عليه جزافًا "الثورة العربية الكبرى"، أو حركة الاستقلال العربي، وصولا إلى موافقة "الشريف" على منح اليهود، "المساكين" على حد قوله، فلسطين لإقامة وطنهم القومي فيها.
أما على المستوى الأوروبي والغربي فتمكّن اليهود والماسونيّة من اقتناص قرار تاريخي؛ هو "وعد بلفور" من بريطانيا، الذي يُعدّ في نظر اليهود "كسر عظم" ومرحلة متقدّمة جدًا على طريق إقامة ما سمّوه بوطنهم القومي في أرض فلسطين، لا بل وتمكّن هؤلاء (اليهود والماسونيون) من كسب ود الدول العظمى، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا ولاحقًا الولايات المتحدة الأمريكية، وتأليب هذه الدول ضد الدولة العثمانية وضرورة التخلّص منها.
هذه التغيّرات بالتأكيد وجدت صدى لدى الأنظمة المذكورة، فشجّعت الأقليات القوميّة داخل الخلافة العثمانيّة، وبالتحديد شبه جزيرة البلقان، ثم بعد ذلك داخل آسيا الوسطى (الأتراك) نفسها؛ فشكّلت حركة تركيا الفتاة، ثم تمكّن الماسونيون من صناعة شخصيّة قياديّة مثل مصطفى كمال أتاتورك، الذي يعود نسبه إلى يهود الدونمة، للقضاء على الدولة العثمانية عام 1924م.
كان دور اليهود والحركة الصهيونية والماسونيّة العالمية حاضرًا وقويًا في زعزعة الاستقرار الداخلي في الدولة العثمانية، لا بل وانفصال العرب ودول البلقان عنها، والإطاحة بها أخيرًا، في حين لم يَجْنِ العرب من ذلك إلا استعمارًا غربيًا مقيتًا، وتقسيم الوطن العربي لدويلات وإمارات متناحرة وعميلة -إن صح القول- لأسيادهم من إنجليز وفرنسيين ومن ثم أمريكان؛ وها نحن حتى اليوم والغد نتخبط على غير هدى، دونما بوصلة نجاة تخرج العرب من مستنقع الذل والهوان والتبعيّة!! (2)
مؤرّخون ومستشرقون
زوّرا تاريخ الخلافة العثمانيّة(3/40)!!*
حمل المؤرخون الأوروبيون واليهود والنصارى والعلمانيون الحاقدون على تاريخ الدولة العثمانية، فاستخدموا أساليب الطعن والتشويه والتشكيك فيما قام به العثمانيون خدمة للإسلام والمسلمين، اتّبع نهجهم الباطل أغلب المؤرخين العرب تقريبا بشتى انتماءاتهم واتجاهاتهم، القومية ، والعلمانية، وكذلك بعض الأتراك الذين تأثّروا بالطرح العلماني الذي تزعّمه مصطفى كمال، فطبيعي جدا أن يقوموا بإدانة فترة الخلافة العثمانية، فوجدوا فيما كتبه النصارى المستشرقون واليهود ثروة ضخمة لدعم تحوّلهم القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى.
موقف المؤرخين الاوروبيين السلبي من التاريخ العثماني هذا نتاج تأثّره بالفتوحات العظيمة التي حقّقها العثمانيون، وخصوصاً بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطيّة (القسطنطينية) وحوّلها العثمانيون دار إسلام واطلقوا عليها اسلام بول (أي دار الاسلام) ، فتأثّرت نفوس الأوربيين بنزعة الحقد والمرارة الموروثة ضد الاسلام فانعكست تلك الأحقاد في كلامهم وافعالهم ، وكتاباتهم ، بعدما عاشت أوروبا في خوف وفزع وهلع مما اسموه الخطر العثماني ولم تهدأ قلوبهم إلا بوفاة السلطان محمد الفاتح وقتها.
زعماء الدين المسيحي من قساوسة ورهبان وملوك غذّوا ايضا الشارع الأوروبي بالأحقاد والضغائن ضد الاسلام والمسلمين ، وعمل رجال الدين المسيحي على حشد الأموال والمتطوّعين لمهاجمة المسلمين (الكفرة على حد زعمهم) البرابرة، وكلّما انتصر العثمانيون على هذه الحشود ازدادت موجة الكره والحقد على الاسلام وأهله، فأتهم زعماء المسيحيين العثمانيين بالقرصنة، والوحشيّة والهمجيّة، وعلقت تلك التهم في ذاكرة الأوروبيين.
لقد كانت الهجمات الإعلامية المركّزة من زعماء المسيحيّة بسبب الحفاظ على مكاسبهم السياسية والماديّة،
*أيا صوفيا – اسطنبول.
وكرههم للإسلام وأهله، وبالفعل استطاعت بعض الاسر الحاكمة في أوروبا أن يتربّعوا على صدور المجتمعات الأوروبيّة في الحكم فترة زمنيّة طويلة، وحقّقوا مكاسب ضخمة فجمعوا ثروات كبيرة, وصنعوا حول أنفسهم هالة كبيرة اعتمدت في مجملها على الضلال والتضليل .
ومع أن المجتمعات الأوروبية ثارت على هذه الفئات، بعد أن اكتشفت ضلالها وتضليلها، مع بداية عصر النهضة ، وبداية مرحلة جديدة في التاريخ الأوروبي، إلا أنه لم يستطع وجدان المجتمع الاوروبي أن يتخلص من تلك الرواسب الموروثة من هذه الفئات تجاه العالم الاسلامي بشكل عام وتجاه الدولة العثمانية بشكل خاص؛ ولذلك اندفعت قواتهم العسكرية المدعومة بحضارتهم المادية للانتقام من الاسلام والمسلمين، ونزع خيراتهم بدوافع دينيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة ، وساندهم كتاّبهم ومؤرّخوهم، للطعن والتشويه والتشكيك في الاسلام وعقيدته وتاريخه، فكان نصيب الدولة العثمانية من هذه الهجمة الشرسة كبير.
أما المؤرّخون العرب في فقد سار جلّهم في ركب القوى المتحاملة والمهاجمة للخلافة العثمانية بدوافع يأتي في مقدمتها إقدام الاتراك بزعامة "مصطفى أتاتورك" على إلغاء الخلافة الاسلامية في عام 1924م، وأعقب ذلك إقدام الحكومة العلمانية التركية بالتحول الكامل الى النهج العلماني في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على حساب الشريعة الاسلامية التي ظلّت سائدة في تركيا منذ قيام الدولة العثمانية .
ويأتي سبب التبعيّة البحثيّة لمدرسة التاريخ العربي لتاريخ المنهجيّة الغربيّة كعامل هام في الاتجاه نحو مهاجمة الخلافة العثمانيّة ، خصوصاً بعد التقاء وجهات النظر بين المؤرّخين الأوروبيين والمؤرّخين العرب حول تشويه الخلافة الاسلامية العثمانية.
ولقد تأثر كثير من المؤرّخين العرب بالحضارة الأوروبية الماديّة، ولذلك عزو ما حصل من اصلاحات في الوطن العربي الى بداية الاحتكاك بالحضارة الغربية، واعتبروا بداية تاريخهم الحديث منذ الحملة الفرنسية على مصر والشام وما أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب، وما ترتّب عليه بعد ذلك من قيام الدولة القوميّة في عهد محمد علي في مصر، وصحب ذلك إدانة الدولة العثمانية التي قامت بالدفاع عن عقيدة الشعوب الاسلامية ودينها واسلامها من الهجمات الوحشيّة التي قام بها الأوروبيون.
احتضنت القوى الأوروبية ايضا الاتجاه المناهض للخلافة الاسلامية ,وقامت بدعم المؤرخين والمفكّرين في مصر والشام على تأصيل الاطار القومي وتعميقه من أمثال: البستاني واليازجي وجورجي زيدان ,وأديب اسحاق وسليم نقاش ,وفرح انطوان وشبلي شميل وسلامة موسى, وهنري كوريل وهليل شفارتز وغيرهم، ويلاحظ ان معظمهم من النصارى واليهود، كما أنهم في أغلبهم إن لم يكونوا جميعاً من المنتمين الى الحركة الماسونية التي تغلغلت في الشرق الاسلامي منذ عصر محمد علي والتي كانت بذورها الاولى مع قدوم نابليون في حملته المشؤومة على المشرق.
وأما المؤرخون الأتراك الذين برزوا في فترة الدعوة القومية التركية فقد تحاملوا كثيراً على فترة الخلافة العثمانية ,سواء لمجاراة الاتجاه السياسي والفكري الذي ساد بلادهم والذي حمّل الفترة السابقة كافة جوانب الضعف والانهيار ,أو لتأثر الاتراك بالموقف المشين الذي بدت عليه سلطة الخلافة والتي اصبحت شكليّة بعد الإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني سنة 1909م ، الى جانب تأثّر المفكرين الأتراك بموقف بعض العرب الذين ساندوا الحلفاء الغربيين إبّان الحرب الأولى ضد دولة الخلافة وإعلان الثورة عليها سنة 1916م؛ وبرغم تفاوت الأسباب وتباينها ألا أن كثيرا من المؤرخين ألتقوا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الاسلامية العثمانية.
اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق، والكذب والبهتان والتشكيك والدس ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الاعمى، والدوافع المنحرفة، بعيدة كل البعد عن الامانة والموضوعيّة.(3)
اضف تعقيب