
كانت لنا دار...
الدكتور ابراهيم ابو جابر
دارنا، غصبت في عتمة اللّيل منّا، غصبوها لصوص محترفون ، ركبوا البحر، تخفّوا عنّا برطنة اجنبيّة، ولباس افرنجيّ، امتشقوا سلاحهم ،وغذّوا بأموالهم. كانوا عطشى للدماء ،جياعا لّلحوم البشريّة، ففتكوا بأهلي في اجزم وحيفا ويافا، في كفرقاسم واللد وبئر السبع، في بلد الشيخ ودير ياسين والدوايمة، في الطنطورة ونابلس وخان يونس، في عسلوج وسمسم وغزّة.
دارنا، بلد العزّ والكرم، غدت دارا للّصوص ،هجّروا ناسها منها بالحديد والنار ، أهانوا كرامة أهلها بالشتم والتعدّي، بالضرب والطرد، بالاعتقال وأعمال السخرة، أهانوا شعبا فردا فردا، كبيرا وصغيرا، رجلا وامرأة وطفلا، دنّسوا المقدّس، هدموا المساجد والكنائس، دنّسوها، تعدّوا على الموتى فنبشوا قبورهم، وتطاولوا على المعبود .
دارنا، كانت بلد خير وعطاء، بلد علم وحضارة، صناعة وتجارة، موانئها ومطاراتها كثيرة، بساتينها غنّاء، مياهها عذبة، محاصيلها وافرة، مدارس ،كليّات ، أحزاب ، نواد ، مسارح اذاعات، مشافي وعيادات ، رياضة ، علماء ورجال سياسة وقيادة، شعراء ، أطباء وأصحاب حرفيّات، وغيرهم ، كان أهلي هانئون ، في سربهم أمنون، فغشيهم ما غشيهم.
دارنا، غصبوها، هتكوا عرضها وأهانوها، لغريب الدار أسكنوها، وبمستوطناتهم أرضها زرعوها، وبأسلاك ووحوش بشريّة حرسوها، بطابع هجين لا عربي بنوها، جبالا نسفوها، وأشجارا غير أشجارنا –دارنا- غرسوها، بلداتنا بمغتصباتهم حاصروها، فغدت سجونا لمن سكنوها؛ هي دارنا ، غدا أهلها غرباء فيها.
دارنا، دارهم عرّفوها، وطنهم ادّعوها، بلد الميعاد نعتوها، ميراثهم نادوها، دارنا ،وطننا يا سامعين الصوت ؛ فاعتدوا، وسلبوا ونهبوا الارض والشجر والحجر ، والتاريخ والجغرافيا، البحر والنهر ، ما فوق الارض وباطنها، هواءها ، شمسها وقمرها ، فاسودّ نهارها ، واحلولك ليلها، وبكت عليها النجوم، وترحّم عليها نسيم الصباح.
دارنا، غدت دارهم زورا ،فغدا أهلي صراخهم غير مسموع، ومطالبهم مرفوضة، وحقوقهم مسلوبة، ودماؤهم مباحة ، وتعذيبهم حرفة ، واهانتهم متعة ، وقتلهم قربى، وسرقة أملاكهم شرع ، غدوا اضحوكة لهم ، لصبيانهم واعلامهم، فعمّموا الامثال والقول الساخر في حقهم، تفنّنوا في القول والهمز والّلمز، فتسلّوا على عذابات قومي.
دارنا، غدت بلدان اللجوء، الاردن وسوريا، مصر ولبنان والعالم، الخيام والصفيح ، الوديان والجبال والكهوف، مخيّمات وضيعة، الطعام من نوال المحسنين، حركات قومي أنفاسهم وضيوفهم ومعاشاتهم وأكلهم وشربهم كلها محسوبة. غدت مخيّمات اللّجوء هذه سجونا بشريّة، الداخل والخارج منها بحسبان، الداخل معدود والخارج مفقود .
دارنا، لصوص الّليل طوّبوها، ببكائهم مرّة، وتعاطف الاخرين ، وبالرشوة تارة اخرى، اشتروا ذمما، وأسقطوا عظماء، واغتالوا قادة، أحلّوا الحرام ،وحرّموا الحلال، طوّعوا مؤسسات ، وهتكوا بيوتا، وأذاعوا الاشاعات، ونشروا الفساد تلو الفساد، أطاحوا بزعماء، ورفعوا على العروش قادة، وشهّروا بسادة.
دارنا، هي دارنا ، لا دارا لنا سواها، نهواها وتهوانا، نعشق أرضها وسماها، نعشق القدس وأقصاها، بحر يافا ومرساها، يطيب الموت على ثراها، وفي سهولها وجبالها، في حيفا والمجدل، في عكا والكرمل، في غزّة وبيت حانون، في نابلس والخليل، وطولكرم وجنين، وأريحا وبيت جبرين.
دارنا، دارنا، كانت دارنا وستبقى دارنا، هي ميراث أولادنا، ومدافن ابائنا وأجدادنا، مسرى الهادي نبينا، هواها يشفي العليل، ونسيمها دواء المكلوم ، باركها الباري وشرّفها، حباها نبينا محمد، في ترابها دفن أنبياء وصالحون، وعلى ثراها سالت دماء أولياء وعارفين، تاريخها بالبطولات زاخر، وباطنها على الظلم شاهد.
دارنا، سبعة وستون عاما غبت عنّا وغبنا عنك، فقدناك وفقدتنا، بكيناك وبكيتنا، هويناك وهويتنا، عذّبوك وعذّبونا، ظلموك وظلمونا، أهانونا وأهانوك، ذبحونا وذبحوك، لكنّنا ما نسيناك ولن ننساك، فأنت فينا، فابشري ،كم من قوم اغتصبوك فمروا، وكم من طامعين دحروا، فزالوا ورحلوا، أبشري لا نامت أعين الجبناء، ولا طاب عيش سواك، فانهضي-فلسطين- ورحّبي بالعائدين، قد مات كبارنا فما نسيناك.
اضف تعقيب