X إغلاق
X إغلاق
الرئيسية | من نحن | أعلن لدينا | اتصل بنا | ارسل خبر      27/11/2024 |    (توقيت القدس)

رثاء محمد مهدي رابي رحمه الله بقلم – الأستاذ عدنان صرصور – مدير الثانوية الجديدة

من : قسماوي نت
نشر : 17/10/2015 - 17:49

رثاء محمد مهدي رابي رحمه الله

بقلم – الأستاذ عدنان صرصور – مدير الثانوية الجديدة

 

طلابي أحبائي بثانويتنا الجديدة, دعوني ألاطف أداعب أكتافكم وأمسح على رؤوسكم, ألمس شفافية نفوسكم الطيبة وقلوبكم الحانية المفعمة بترابط الأخوة فيما بينكم. دعوني أهمس في آذانكم, كم أحببناكم ونحبكم بكل ما في فيكم حتى عفويتكم سائلين المولى عافيتكم صباح مساء.

مصطلح "طالب" له  عظيم المعاني والمغازي لا يدرك كنهه إلا من تذوقه وغاص في أعماق حروفه وطاف في فلك أبراجه. فلولا الطلاب, لما فتحت المدارس, ولما توظف المعلمون, ولما طبعت الكتب, ولما صنعت الأقلام والحقائب. فللعلم طلبة يرتادونه طالبين التخصص والتوسع والاستزادة بمجالات الحياة, طالبين صقل مهاراتهم والتعرف على قدراتهم من أجل استعمالها واستثمارها بخير الدروب بأروع الفنون ورساتيق الأحلام.

هكذا كان محمد مهدي رابي قد اهتدى بوافر النور لخلق نبيل جدير بحفاوة التقدير والثناء يربو بتناغم الأحوال والأحلام. ترعرع بطفولته سنة تلو سنة, ليدخل المرحلة الثانوية بأناقته البهية ودماثة خصاله  الفتية. أحبه الجميع بجدارة, وأحب الجميع من حوله ببهاء اتزانه وخصوبة هدوئه, حتى بدت ملامحه ملائكية الطلعة بصورة آدمية معطاءة.

لكن هيهات, انها الخطوب حينما تحل النوائب دون سابق انذار, تقطف ريحانة من بستان وافر ويانع الايراق. وكأننا بحلم, عفوا بكابوس يطاردنا, نبتهل, نتمنى ونتأمل أن نستيقظ لعل الواقع يتغير.

لكنه القدر قد وقع, فلا مفر ولا ممر من ملاقاة الصبر وعناقه بجميل الألفاظ وطلاوة الأقوال, بأرقى ما سطره القرآن: "وبشر الصابرين".

كانت السماء صافية, والنجوم لامعة, اللهم إلا نجما واحدا قد شعّ إشعاعا كبيرا ثم انقشع. كنا على موعد لميلاد هلال سنة هجرية جديدة,  وإذا بسحابة كبيرة داكنة اللون قد حجبت وميض الكواكب العسجدية,  وأخذت تبكي دموعا منهمرة فوق مدرستنا الأبية. كان الوقت ساعة السحر قبل آذان الفجر. فقد سبق السحابة صياح ديك جيراننا الأحمر ذي العرف القرمزي الجميل. وطالما دللته الجدة أم أحمد وأم شاكر, وعكفت على رعايته, وها هو يصيح صياحا على غير عادته من حيث الاسترسال ونغمة الإيقاع الحزين. كل الشواهد والتحركات الغير معهودة تنذر بأمر جلل عظيم يحوم بالأفق القريب.

دقت قطرات من دمع الغيمة الداكنة شباك الصف الزجاجي طالبة الاستئذان بالدخول. لكن أطياف الطلاب جزعت جزعا شديدا ولم تقو على استقبالها في هذا الوقت المتأخر من الليل.  ما بالها يا ترى؟ وماذا تريد؟. غرقت الأطياف الطلابية, فتيانا وفتيات, في حيرة شديدة كأنها البحر المتلاطم موجه يداهمها. فجأة أبرقت الدنيا, وإذا بسنا البرق قد أضاء جنبات الصف الماجد. شعرت الأطياف بذاك السنا يلاطفها ويداعب جفونها المغمضة. شعرت وكأن وميض البرق يوقظها لأمر جلل قد حدث. وما هي إلا لحظات قد ارتفعت صيحات الديكة مرة أخرى وارتفعت تراتيل المآذن معلنة دخول الفجر. ما كاد المستغفرون بالأسحار ينهون صلاتهم واذا بالناعي يبرق فاجعة المدينة بوفاة ابن من خيرة الطلاب بالثانوية الجديدة, عفوا ليس فقط, بل ابن أسرة التربية والتعليم بمدينتنا الفاضلة. أليس كذلك يا سادة....

يا الهي, ما هذه الأصوات المترددة؟ وما تلك حشرجات البكاء؟ هل حدث لمحمد مكروه؟

نعم. فهمنا أن محمدا سيعود من المستشفى صباحا, بعد أن أسلم الروح لبارئها. سيعود مسجيا ونودعه الوداع الأخير, ليرقد تحت الثرى ينتظر يوم النشور لينعم بالخلود والفوز بالحبور.

توجهنا لبيت الفقيد نتفقد طلابنا ومعلمينا وكلهم في فلك حائرون, تخطفهم الرهبة ولوعة الفراق.

أردت الاطمئنان على طالبنا المصاب الآخر بالحادث المروع. رافقني في عجالة من أمرنا للمستشفى زميل يستحق المديح. ورنات الهاتف كزخات المطر من بقية الزملاء دون نهاية لننقل لهم الخبر اليقين بأن طالبنا الآخر بخير فتصدوا لكل اشاعة. حمدنا الله تعالى ورجعنا بسرعة الى بيت الفقيد.

انتظرنا الساعة تلو الساعة, ووصل الجثمان المسجى لحبيبنا محمد ليغتسل ويلبس الأكفان بجلالة ملائكية وطلعة سحرية كالبدر الوضاء يتلألأ. كنت أخاطبه بنبرة سرية وقد أغمض عينيه, وروحه حتما كانت ترفرف فوق الجموع المصطفة بداخل وخارج بيت جدته الفاضلة جالسة بعربة تدور باليد, تنتظر وداع حفيدها فلذة كبدها وفارس أحلامها, مهلا, ليس الأمر هنا سهلا, انه الوداع الأخير يا سادة. لمحت حضورا مهيبا لكل معلم ومعلمة من أسرة مدرستنا الثكلى. كيف لا, وكلهم قد عرف محمدا حق المعرفة. انها تأدية الحقوق في أسمى معانيها. نعم الحقوق الحقوق قبل الواجب وقبل العاطفة وانهمار الدموع.   

ربما وحتما فهمنا من طالبنا الممدد على المغتسل قولا بليغا دون أن ينطق.

وكأن لسان حاله يقول: "عفوا, لا تبكوا علي, اياكم صحبي وخلاني لا تبكوا علي, أين صبركم؟ سلامي لكم, وامنحوني دعاءكم, سيروا بعزمكم وثباتكم, والرب يحميكم ويرعاكم".

لحظة تلو اللحظة وأصبح عريس الموكب سيد الموقف, يقبله المودعون مع تصويب النظرات الأخيرة لمفارق للدنيا الى عالم سرمدي عجيب. ودعته الأم الصابرة المحتسبة, ثم الأب الرائع بصبره يضرب أروع الأمثال وأروع العبر. ثم تلاهما العديد العديد من الأخوال وذوي القربى.  انطلقت الجنازة صوب ميدان أبي بكر الصديق, واكتظ المسجد بأقرباء الفقيد ومحبيه من معلميه وخلانه وذويه, ورفاقه كلهم طلاب لهم هم وشأن بألسن لاهج دعاؤها بالرحمة وولوج الجنان.

 

وصل المشيعون للحد الموعود, وكأننا بملائكة الرحمة مصطفة بين الأجداث تتلقف فقيدنا بمسك العنبر وطيب الكافور. ودخل حبيبنا برزخه دون خوف ولا فزع. وأخذ الأحباب والخلان  يحثون عليه التراب, فيتوارى جسده الطاهر تحت الثرى المعطر بالعود. وتقدمت الأكاليل الوردية فوق الجدث الناضر  لكل ناظر من الأفواج الطلابية, ترتعد قلوبهم وجوارحهم تعظيما للموقف – لن يروا صديقهم محمدا بعد اليوم الا بالصور. نظرت يمنة ويسرة, واذا بالدموع تترقرق بعيون طلابنا وأبنائنا ومن شاركنا في مصابنا, منهم من طأطأ الرأس اجلالا واكراما لقدسية مراسيم الوداع الأخير, ومنهم من أسبل عينيه غارقا في استعادة الذكريات الجميلة مع صديق للتو راحل, ومنهم من رفع كفيه قريبا من وجنتيه يبتهل للرب يتوسل كرمه وعظيم عفوه وعطائه.

 

وأخيرا وصلت لمشهد مخاطبتك فقيدنا المبجل

طالبي الحبيب محمد ....

رحلت عنا, سطرت لك رسالة أتلوها عليك أمام الملأ عفوا, فهل تسمعنا يا محمد؟

يصعب الحديث عنك بلغة ماض وقد عرفناك بمعان فريدة

كنت زهرة وردية زينت بساتين الأخلاق العالية الحميدة

 عزفت في ميادين العز والتناغم بقمة تواضع وأدبيات رفيعة

يا لؤلؤة  قد زهت حتى لمعت, ثم أبرقت لحن ومضات جميلة

يا درة ياقوت قد سطعت, نشتاق إليك بجلسات بليغة

قالوا فيك مرارا وتكرارا, جهارا ونهارا, كلمات عظيمة

لم نحلم بحالك الأحلام نرثيك ونبكيك ولم تفرح بأيام مديدة

محمد يكفيك خير الأسماء تحمله بحوض الكوثر شربات هنيئة

كم تمنيت رؤياك بين خلانك بتخريجك يافعا ببردة قشيبة

نم يا بني قرير العين تحت الثرى وروحك ملائكية بحومة مهيبة

ما من معلم ومعلمة الا رثاك سالت دموعه على الخدود لهيبة

ما من زميل وزميلة بصفك الا بكاك لكرسيك ناظرا بحسرة كئيبة

يا ترى ستفتقدك البوابة والأشجار في الساحة سائلة عنك حزينة

خلانك يرجونك محمدا لا تغب بطيفك عنا  زرنا بروحك الرزينة

هيهات نكفكف دمعنا بالمآقي سالت مدرارة بفيضها جليلة

يضيء الشموع خلانك أنوار الرزانة والرتابة تهب نسائم ندية

لتزهر زنابق التفاهم والألفة, شقائق في فلك الأناقة الحسية

سبحان رب البرايا في ملكوته انتقاك فتيا محمدا بمحبة الهية

لن نسخط ولن نغضب حتى بولولة على قدر محتوم للبشرية

يا ليت بساط سليمان ميسرا ركوبه للقياك روحا وغدوة فوقية

لن ننساك غالينا صوب امتطاء جياد حبنا لك صراحة جلية

للخلد في الجنان تمتع بشراك حبيبنا نشأت بطاعة ظلالها وفيرة

حبي وامتناني واحترامي لكل طلابي طالباتي بالثانوية الجديدة

بوركتم وبوركت هاماتكم علما يرفرف بكل ألوانه الحميدة

تحية اجلال واكبار لكل معلم ومعلمة بمدرستنا ذات الهمة الأبية

نبتهل للمولى أن يرحم فقيدنا وينقيه ناصعا كالثلج بمغفرة علوية

وداعا حبيبنا محمدا

وداعا ثم وداعا

أسرة الثانوية الجديدة – المحبة لك

 

لارسال مواد واخبار لموقع قسماوي نت البريد: info@kasmawi.net

اضف تعقيب

ارسل
1
الله يرحمو الله اصبر اءمو
كفر قاسم - 18/10/2015
2
رائع رثائك استاذي الفاضل عدنان هي كلمه صغيره نسبة لما كتبته وقدمته ،حقيقة هو اكثر من رائع بكل ما في الكلمة من معنى.. انهمرت دموعي على وجنتي حين تلقيت الخبر المؤلم وصعقت به وها هي عادت وانهمرت بقسوة لقولك وداعا وداعا وداعا في النهايه.. قابلنا الفراق بعدة معانيه ك فراق الاصدقاء،الأحبه،وغيرها ولكن هذا الفراق كان أشدها وأصعبها.. على الرغم من القضاء والقدر الذي لا مفر منه الا ان واقع الاحداث مؤلم ووقع الكلمات بداخلنا امر صعب.. ليس هناك اي وصف يمكنه التعبير عما بداخلنا ولن يكون، ولكن سنكتفي بالدعاء لفقيدنا الغالي بالمغفرة والرحمه من رب العالمين وان يسكن محمد فسيح جناته .. اللهم امين
عائشه عيسى - 19/10/2015