قراءة في واقعنا العربي المحلي بعد عملية القدس .. بقلم إبراهيم عبدالله صرصور ***
قراءة في واقعنا العربي المحلي بعد عملية القدس ..
بقلم إبراهيم عبدالله صرصور ***
موقف الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني من ثوابتنا الوطنية راسخ رسوخ الجبال لا مراء فيه ولا مساومة عليه، ومن هذه الثوابت ذات العلاقة بموضوع الجدل الناشب حول عملية القدس وما نشأ عنها من أوضاع ، ما يلي :
أولا، رفضنا القاطع وغير المتلعثم للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الاسرائيلي من اي كان درزيا كان او مسلما او مسيحيا، وذلك لإجماعنا الوطني على ان جيش الاحتلال يمثل الأداة الباطشة لدولة اسرائيل التي تحتل الارض وتقتل الشعب وتصادر الوطن وتنتهك المقدسات وتمارس ارهاب الدولة ضدنا كجماهير عربية وضد شعبنا الفلسطيني، فوق ما يمثله من رمز لدولة نكبت شعبنا وبنت كيانها على ترابه الوطني على حساب حقوقه الوطنية المشروعة، وعليه فمن يختار الخدمة العسكرية يتحمل مسؤولية قراره وعلى جميع المستويات. لذلك لا يمكن للحركة الإسلامية مبدئيا ان تشارك في أي نشاط مهما كان نوعه يمكن ان يضعها في تناقض مع رفضها القاطع للخدمة العسكرية وما ينشأ عنها من تعقيدات اجتماعية وسياسية وحتى نفسية .
موقف الحركة الإسلامية في هذا الصدد فوق انه مبدئيٌ لا مساومة عليه، فإنه منسجم تماما مع المعمولِ به والمفهومِ ضمنا وتعيه تماما عائلات من يُقتل من هؤلاء الجنود في سياق هذا الصراع بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وعليه يَعون تماما ان المجتمع العربي بأحزابه وحركاته وتنظيماته وتشكيلاته غير مطالب تجاههم باي التزام من اي نوع ، على ان يبقى الامر خاضعا لاعتبارات محلية متعلقة بالجيرة والعلاقات الاجتماعية التي لا مناص منها في بعض الأحيان. ولذلك لم تكن هنالك مشكلة في هذا الصدد قبل الان. فما الذي اثار الجدل حول الواقعة الاخيرة رغم انها جزء من واقع مرير لا خلاف على توصيفه؟ اجيب عن هذا السؤال لاحقا .
ثانيا، الكفاح المسلح ليس من مفردات نضالنا المدني والسلمي كمجتمع عربي في الداخل الفلسطيني ضد سياسات التمييز العنصري والقهر القومي الإسرائيلية. اولوياتنا تتحدد في الحفاظ على الوجود والهوية الدينية والوطنية والقومية وتحصيل الحقوق المدنية والسياسية الفردية والجماعية، ودعم الحقوق المشروعة لشعبنا الفلسطيني وامتنا العربية والإسلامية. طريق الوصول الى هذه الغايات لا يتم الا بالنضال السلمي والمدني الذي قد نصل فيه الا حافة الهاوية دون ان نقع فيها، ونشد فيها الحبل حتى نهايته دون ان نقطع. لهذا لم يكن مُستغربا موقف الاجماع العربي في الداخل من عملية القدس والمنسجم مع هذا الاجماع دون النظر الى التفاصيل.
ثالثا - الاحتلال الاسرائيلي هو مصدر كل المصائب والكوارث، وهو وحده من يتحمل مسؤولية استمرار اراقة الدماء في القدس وغيرها، وهو وحده من يتحمل المسؤولية عن تدهور الاوضاع بسبب ممارساته الوحشية والقمعية ضد شعبنا الفلسطيني وجماهيرنا العربية الفلسطينية في الداخل، وضد مدينتنا المقدسة والمسجد الأقصى المبارك، وإمعانه في حصاره ومنع المسلمين من ممارسة شعائرهم فيه دون معوقات، وانه لن يكون هناك استقرار او أمن لاحد ما دام الاحتلال قائما، ولا يمكن لأحد ان يضمن أن أقواما يمكن ان يتحركوا بدوافع فردية للرد على ممارسات الاحتلال الاجرامية بطريقتهم، ويخرجوا عن إجماع قومهم بسبب قراءة شخصية لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
رابعا - القدس والاقصى مُلْكٌ خالص للعرب والمسلمين والفلسطينيين، ولا حق لليهود في ذرة منه بما في ذلك حائط البراق، ولا يحق لهم الدخول اليه مهما كانت الاسباب، وإن دخلوه فبقوة السلاح وبحكم الامر الواقع، دونما رضى المسلمين والاوقاف الإسلامية ذات السيادة على الحرم القدسي، وعلى كل العرب والمسلمين واحرار العالم هنا وفي كل الدنيا ، الدفاع عنه حتى زوال الاحتلال عن رحابه وتحطيم اغلاله، لان في استمرار السياسة الإسرائيلية الحالية تهديدا للأمن والاستقرار الدوليين بشكل سافر.
محاور تستحق التذكير بها ..
اولا : ما كنت احب ان تدخل "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية" وهي العنوان الرسمي والوطني للجماهير العربية في الداخل، على خط هذه الحدث ابدا (أعني التعزية في الجنود القتلى!)، وان يُترك الامر لما تعارف عليه الناس من توافقات مُتفاهَمٍ عليها ضمنا من غير اتفاق رسمي، وذلك لمعرفة طرفي المعادلة بقناعات كل منهما مما له علاقة بالثوابت الدينية والوطنية والقومية .
الاستنتــــاج على ضــوء الاستـــعراض ..
ثالثا - الدكتور منصور عباس كما هو معروف ابن لقرية المغار وقيادي مجتمعي فيها قبل ان يكون قياديا في الحركة الاسلامية، ومن هذا المنطلق كان لزاما عليه جنبا الى جنب مع قيادات اخرى اسلامية ودرزية ومسيحية من أبناء المغار وغيرها، التحرك محليا دون اية علاقة مع الحركة الإسلامية، لاحتواء الموقف ومنع التدهور، ودونما اية علاقة مع الحدث نفسه وان كان الحدث ماثلا في خلفية المشهد. هذا ما فعله الدكتور منصور عباس بالتحديد، فهو لم يتحرك ممثلا للحركة الإسلامية ولم يَدَّعِ ذلك يوما، وانما بصفته الاجتماعية الشخصية والتزامه الأخلاقي تجاه اهل قريته وسائر المجتمع العربي قطعا لدابر الفتنة ومنعا لتدهور العلاقة البينية وحفاظا على النسيج المجتمعي الحافظ للحد الأدنى من مستويات العيش المشترك بدون اية علاقة مع الحدث نفسه الذي سيبقى الخلاف حوله ابديا كما يبدو.
رابعا - الحركة الإسلامية ومن خلال حرصها على تعزيز السلم الأهلي بين مكونات المجتمع العربي، القضية التي تحظى بالإجماع بالرغم من الاختلاف في كثير من التفاصيل، أيَّدتْ هذا التحرك من هذا المنطلق الاجتماعي والأخلاقي، وشجَّعتْ ابنها الدكتور منصور عباس بصفته الشخصية لا كممثل للحركة الاسلامية ولكونه ابنا لقرية المغار، على المشاركة مع غيره في هذا الجهد للاعتبارات الموضوعية التي ذكرْتُ آنفا ، وتركَتْ له ولشركائه اتخاذ مع يرونه مناسبا من قرارات بعد التشاور مع القيادات الاجتماعية والدينية في المجتمع العربي والدرزي، من غير ان تُلزم هذه القرارات الحركة الإسلامية او تمثلها من قريب او بعيد.
خامسا - من هنا يحق لي ان استنكر تصريحات وتعليقات كل الذين اندفعوا من غير تروي، فوجهوا سهام اتهاماتهم الباطلة التي وصلت حد التخوين لكل الذي قاموا بجهد في رأب الصدع، متجاهلين تماما ان مساعي هؤلاء القيادات إنما جاءت لمنع الفتنة وإخمادا لنارها قبل ان تستفحل وقد اطلت برأسها الاشعث، دون ان يتنازلوا قيد أنملة عن الثوابت التي ذكرتها في مطلع هذه السطور.
خلاصــــة الامـــــــر ..
أولا : الخدمة العسكرية مرفوضة رفضا قاطعا، ومن يقرر الانخراط فيها يتحمل المسؤولية كاملة ويعرف تماما تبعات مثل هذا القرار .
ثانيا : القدس والاقصى للعرب والمسلمين والفلسطينيين وليس لليهود حق في ذرة منها.
ثالثا : نرفض وضع الواقعة الأخيرة على خط الصراع الطائفي ، ومن يفعلها فهو مجرم في حق هذا المجتمع.
رابعا : نُقَدِّرُ تعاون القيادات الدرزية الدينية والاجتماعية مع الجهود الرامية لواد الفتنة ولجم الأصوات الطائفية النشاز، والحرص على السلم الأهلي. في هذا السياق نسجل أيضا اعتزازنا بكل الكيانات الدرزية التي تسعى بكل جد واجتهاد الى تحرير الطائفة الدرزية من عبئ الخدمة العسكرية لما فيها من تناقض وتعارض مع القيم الوطنية والعروبية للدروز، وثوابت مجتمعنا العربي الذي يعتبر الدروز جزءا منه رغم اختلافه الجذري معه في كثير من القضايا ومنها الخدمة العسكرية التي لا يمكن فهمها على الاطلاق.
خامسا : كنت افضل عدم دخول لجنة المتابعة العليا على خط الاحداث، وإبقاء الموضوع لمعالجة لجان شعبية منعا لان تأخذ القضية منحى قد يُساء فهمه، وقد حصل مع الأسف.
سادسا : رغم ما ذكرت آنفا، فأنا على قناعة تامة أن زيارة القيادات العربية - الذين نعرف عمق وطنيتهم - لبيوت عزاء الجنود الدروز القتلى، لم تكن الا جزءا من جهود التهدئة لنار الفتنة التي عملت بعض الأوساط لإشعالها، ولم تكن ابدا تنازلا عن الثوابت التي نعرفها في هذا الشأن ومنها الرفض القاطع للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وإنكارها بكل الطرق الممكنة. لذلك حسنا يفعل بعض المعترضين - وانا منهم - لو ابقوا اعتراضهم في اطار حسن الظن بإخوانهم دونما اتهام وصل عند البعض حد التخوين، الامر الذي نرفضه تماما مهما اختلفنا او اتفقنا مع الزيارة!
سابعا: الدكتور منصور عباس لم يَدَّعِ انه مَثَّلَ الحركة الإسلامية في مشاركته في الزيارة موضوع النقاش، تماما كما ان محمد بركة لم يمثل الجبهة، ومازن غنايم لم يمثل اللجنة القطرية للرؤساء ( هذه قناعتي الا ان يظهر عكسها )، وانما مَثَّلَ نفسه كقيادي اجتماعي عربي ومواطن في المغار التي احتاجت له ولأمثاله للتحرك السريع لواد الفتنة التي كادت تفجر الأوضاع وتأتي على الأخضر واليابس. لا اعتقد ان عاقلا يمكن ان يعترض على ذلك، بل الأصل توجيه التحية للدكتور منصور ولإخوانه من القيادات الذين قاموا بواجبهم في مواجهة الطوفان وان اختلفنا معهم في بعض جزئيات هذه الجهود التي يمكن نقاشها في الدوائر المناسبة، وتحملوا في ذلك العنت وسهام النقد، متبرعين بأعراضهم في سبيل حماية مجتمعهم وخدمته .
ثامنا: أرى انه من الضروري لذات الأشخاص الذي قاموا بالزيارة الى المغار وحرفيش ، ان يقوموا بزيارة لام الفحم للقيام بواجب العزاء، الامر الذي اراه في محله على ضوء التطورات، دونما النظر الى أية اعتبارات غريبة او تفسيرات ضارة او مقارنات مغرضة .
تاسعا: أرى ان مجتمعنا العربي قد اعطى هذا الموضوع ما يكفي من النقاش والتحليل ، وعليه أرى انه من الصحي جدا نقله من صفحات شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الى الدوائر المناسبة لاستمرار مناقشته الهادئة حتى الوصول الى النتائج التي تسهم في بناء تصوراتنا للمستقبل .
عاشرا: آن الأوان لمجتمعنا العربي عموما وقادة الرأي فيه أن يعززوا ثقافة الحوار بين اطيافه على قاعدة الثقة فيما بينها، وان يمارسوا حقهم في الانتقاد وتوجيه النصيحة بعيدا عن الطعن والتخوين الذي سئمنا منه، وفي إطار الحرص على الوحدة الوطنية وتعزيزها، والابتعاد عما يضعفها أو يهددها. ما من بديل امامنا كمجتمع عربي فلسطيني يواجه ما يواجه من قهر وكيد ومكر الا ان يتوحد ويحرص على الوحدة، فهي رأسمالنا الذي إن ضيعناه ضاع كل شيء .
*** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني
اضف تعقيب