لا نقول وداعا يا شيخ (سمير احمد صرصور)، ولكن إلى لقاء . بقلم إبراهيم عبدالله صرصور
لا نقول وداعا يا شيخ (سمير احمد صرصور)، ولكن إلى لقاء .
بقلم إبراهيم عبدالله صرصور
من مِنّا في كفر قاسم ومحيطها القريب لا يعرف الرجل الصالح الشيخ سمير (عبدالكريم) احمد صرصور؟؟.. من منا لا يعرف الشيخ أبا محمد؟؟.. لا اعتقد أن أحدا من أبناء الحركة الإسلامية وغيرهم من عامة الناس إلا وسمع به، وتحدث إليه، وتوجه طلبا لمساعدته، أفاد من علمه وخبرته ودرايته، وأفاد من صمته كما افاد من كلامه العذب على قلته. يكبرني بنحو شهرين تقريبا (وُلدَ آخر شهر كانون اول 1958، ووُلدتُ بداية شهر شباط 1959)، وبهذا ارتبطنا ببعض منذ وقت مبكر.. هو ابن عمي (الشيخ احمد) المولود في العام 1908، والذي قَلَّدَهُ الناس وسام (الشيخ) منذ صباه لدينه وتقواه، ولازمه في شبابه، وظل ملازما له حتى وفاته في الذكرى الاربعين لمجزرة كفر قاسم بتاريخ 29.10.1996، اليوم الذي انفتحت فيه أبواب السماء بماء منهمر وكأنها بكت لموته رحمه الله رحمة واسعة..
بحكم القرابة (أبناء عم) والجيرة حيث كنا نعيش في بيوت متلاصقة بناها الاهل في خمسينات القرن الماضي، عشنا في كنف اهلنا إخوة بالمعنى الكامل.. رضعنا القيم الدينية من هذه البيئة النقية الطاهرة التي كان فيها آباؤنا وامهاتنا المثل الاعلى في الالتزام بفرائض الاسلام وأخلاقه وقيمه، فكانت الطريق قصيرة إلى رحاب الحركة الاسلامية التي أسسها فضيلة الشيخ عبدالله نمر درويش – رحمه الله – الذي التقينا به في مبكرا جدا ونحن ما زلنا ابناء اثنتي عشرة سنة (1970).. كان لقاؤنا معه في المسجد، حيث حرص اهلنا على اصطحابنا لكل صلاة تقريبا، فجاء اللقاء بالشيخ المؤسس سلسا جدا وكأننا كنا على موعد معه منذ الازل.. أفرح ذلك اهلنا كثيرا خصوصا بعدما رأوا بأنفسهم ثمار هذه القاءات مع الشيخ عبدالله على المستويين العلمي والسلوكي.. لقد حرصنا على نقل كل ما نتعلمه الى بيوتنا، وكنا نتحلق كإخوة قبل النوم لاسترجاع ما تعلمناه شرحا وتوضيحا وتعليما، بينما تتهلل وجوه اهلنا فرحا بما يرون ويسمعون..
كذلك كان يفعل (سمير) ونحن معه في كل مناسبة نلتقي فيها مع أهلنا في رحاب الحقول الفسيحة التي اشتغل فيها آباؤنا وامهاتنا لعقود طويلة بحكم احترافهم لمهنة الفلاحة.. كانت تلك الساعات التي كنا نقضيها مع الاهل في ذلك الفضاء الفسيح وفي أحضان الحقول الخضراء الممتدة، فرصة ذهبية بالنسبة لنا لمراجعة ما حفظناه من قرآن وعلوم، وللاستفادة من تجربة آبائنا وقصصهم وحكاياتهم التي لا تنتهي، نستمع اليها بشغف ونرددها بحماسة وننقلها لزملائنا بكل صدق وأمانة.. كان (سمير) في كل ذلك الفارس الذي لا يبارى والمجتهد الذي تنقطع الانفاس إن حاولت اللحاق به ..
كما عشنا نحن في هذه البيئة الربانية التي أحاطنا بها اهلنا منذ نعومة أظافرنا، فقد عرفنا انهم هم أيضا قد عاشوا ذات البيئة التي صاغها أبوهم "جدنا" (محمد إسماعيل صرصور) الذي عُرفَ هو أيضا بصلاحه وتقواه.. كنت أسأل امي - رحمها الله - عن جدي (محمد) لكثرة ما كنا نسمع حوله من حكايات يتداولها الرجال والنساء في مجالسهم، حببتنا فيه ولم نره، وَشَوَّقتنا اليه ولم نلقه، لأنه توفي في العام 1939.. كنت أسألها عن أكثر واحد في العائلة يشبهه في خَلْقهِ وَخُلُقِه .. كانت – رحمها الله رحمة وساعة وأسكنها ووالدينا فسيح جنانه – تجيب مباشرة وبلا تردد: "ابن عمك (سمير)، هو اكثركم شَبَهاً بجدكم (محمد) خَلْقا وَخُلُقا . "..
مما قَوَّى – في تقديري – صلة أسرتنا بالتدين الايجابي، وَعَمَّقَ فهمنا لواقع شعبنا الفلسطيني ولطبيعة الصراع، وعَرَّفَنا بأقصر الطرق للحماية من نتائجه الكارثية، مجموعة احداث من اهمها: اولا، وفاة العم الأكبر عبدالحافظ - رحمه الله – شابا في بداية ثلاثينات القرن الماضي دون ان يترك ولدا، مما كان له اكبر الأثر على الأسرة بأسرها، وكذا استشهاد العم البكر (يوسف/53 عاما) مع نحو عشرة من أبناء العائلة في مجزرة كفر قاسم بتاريخ 29.10.1956، على رأسهم الخال (محمود/27 عاما) سائق الشاحنة التي كان يرافقها فيها عمي الشهيد (يوسف)، وابن خالي سليم (محمد/15 عاما) وابنة عمتي حليمة (فاطمة/15 عاما).. وثانيا، حرص الاسرة وخصوصا العم الشهيد (يوسف) على متابعة تعليم ولده (عبدالرحمن/مواليد 1933)، وهو الابن البكر الأول في الاسرة كلها، على استكمال تعليمه رغم كل الظروف، فأنهى تعليمه الثانوي في مدينة قلقيلية، ووقعت النكبة وهو خارج الحدود (عند اخواله في قرية كفر ثلث في الضفة)، ولم يتم (جمع شمله) الا في العام 1950، ليكون بعدها من اوائل المعلمين القلة في المدرسة الوحيدة في كفر قاسم حينها. باعتراف كل المهتمين بالشأن الثقافي في كفر قاسم، يعتبر (الاستاذ عبدالرحمن) كما كان الناس يطلقون عليه وما زالوا حتى الان رغم تقاعده منذ اكثر من 30 عاما، من اوائل الرواد المثقفين الذي حملوا لواء التوعية مبكرا، وكان لجهوده نتائج ايجابية في توعية وتعبئة جيل الشباب في تلك الفترة المفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية تحت الحكم العسكري.. كان من توفيق الله ان جعل هذا (الاستاذ) واحدا من اسرتنا، والذي يعني قرب هذا النبع الزلال من العلم والمعرفة والوعي منا جميعا، وخصوصا الطفل (سمير)، حيث وقع في نصيبنا ان نكون في معيته في تلك الفترة المبكرة.
كان الشيخ (سمير/عبدالكريم) – رحمه الله – من اكثر الناس التصاقا بالأستاذ (عبدالرحمن)، حيث كان يلتقي بنا يوميا تقريبا بعد صلاة العشاء (مرحلة ما قبل التلفزيون) في اوساط ستينات القرن الماضي ونحن ما زلنا اطفالا، يقص علينا القصص اليومية بأسلوبه المميز والمشوق، وتعليقاته الخفيفة، لننطلق بعدها قافزين – كما اذكر – من على الجدران غير المرتفعة الفاصلة بين بيوتنا، لنأوي إلى فرشنا استعدادا ليوم جديد..
وقعت حرب العام 1967 (هزيمة حرب 5 حزيران) وسمير ابن ثمان سنين.. أذكر كيف كنا نقف على ظهر احد بيوتنا المرتفعة مع إخوتنا الكبار نراقب حركة الطيران مع بداية الحرب وقبل ان يعرف الجميع ان حربا قد نشبت بالفعل.. الاهم من ذلك، انتقالنا جميعا ومعنا (سمير) من بيوتنا التي نسكن فيها إلى بيت كبير، كنا ننام فيها على قش الفستق، بينما أصر والدانا على البقاء في بيوتنا رافضين تركها مهما كانت الاسباب.. كانت السهرات في ذلك البيت طويلة تكاد تمتد حتى الفجر، يتابع خلالها الاكبر منا سنا ومنهم الاستاذ (عبدالرحمن) الاخبار من خلال المذياع، لتستمر النقاشات كما قلت الى ساعات الصباح .. كان (سمير) ونحن معه نصغي بشغف الى كل كلمة تُقال في تلك الليالي، وكنا نرفض اوامر الكبار لنا بالنوم المبكر طلبا للمزيد من المعرفة والعلم بتفاصيل ما يجري..
كان لكل تلك الاحداث أثرها في تكوين شخصية (سمير/عبدالكريم) وشخصياتنا جميعا. لذلك لم يكن غريبا ان يكون لقاءونا مع الشيخ عبدالله نمر درويش رحمه الله – كما ذكرت – سلسا في العام 1970 وذلك أثناء كل إجازاته الاسبوعية التي كان يصر على قضائها في بلده كفر قاسم. كان حريصا على ان يحضر الى المسجد بحكم علاقته القوية مع الشيخ (علي الرابي) رحمه الله، إمام المسجد الوحيد، والذي كانت تربطه مع الشيخ المؤسس قرابة دم، اتاحت له فرصة التدريس وقراءة القرآن وتنظيم الدروس لرواد المسجد من الاطفال والشباب.
وجد (سمير) ضالته في تلك اللقاءات المميزة التي ادارها الشيخ المؤسس. لذلك كان حريصا على حضورها والاستعداد لها والاجتهاد في الاستفادة منها.. الحق، والحق أقول، لم يكن منا أحد يستطيع التنافس معه، لكنه كان من أكثر الناس تذكيرا لنا بها وحضًّا لنا على المشاركة فيها.. كان اسبقنا بحسه المرهف الذي حباه الله به مبكرا، إلى استيعاب اهمية هذه اللقاءات، فكان اكثرنا استفادة منها وحرصا عليها، وقد انعكس ذلك عليه فيما بعد في حفظه لكتاب الله مبكرا ولم نحفظه نحن، والتعمق في ابواب المعرفة ولم نتعمق نحن، وخوض غمار التربية الروحية ولم نخضها نحن الا قليلا، وسَبْقِهِ في فنون العبادة ولم نفعل نحن، وغير ذلك كثير..
كانت لقاءات المسجد التي كان (سمير) فارسها، تمهيدا لفترة شاء الله تعالى ان تتحقق نقلتْهُ ونقلتنا معه إلى مرحلة جديدة شكلت قفزة نوعية بامتياز في حياته وحياتنا.
قلت انني و (سمير) كنا ابناء عم وفي جيل واحد.. لذلك كنا معا على طاولة واحدة ابتداء من صف (البستان/الروضة) وحتى الصف الثاني عشر.. تقاسمنا في تلك السنوات الثلاثة عشرة كل التجارب التي شَكَّلَتْ حياتنا فيما بعد، إلا انني اعترف مسبقا أنني رأيت فيه مثلا أعلى، ولم أشعر يوما بما يمكن ان يشعر به القرناء أبناء الجيل الواحد من تنافس خفي وعلني.. كنت ومن معي قد سَلَّمْنَا ل (سمير) بقصب السبق، ورجونا الله سبحانه ان يجعل لنا حظا مما جعل له، وإن يوفقنا إلى ما وفقه اليه.. زادنا حبا فيه تواضعه رغم تميزه، حيث كان حريصا على ان يكون واحدا منا رغم انه القائد فينا.
كان الاول من شهر ايلول من العام 1973 بداية تشكيل الوعي الحركي لدى (سمير) وشاء الله ان نكون معه في ذلك. في ذات العام تم تعيين الشيخ عبدالله نمر درويش – رحمه الله – مدرسا للتربية الاسلامية في المدرسة الثانوية في كفر قاسم، فكان مُعَلِّمَنا في ذات العام (الصف التاسع).. هنا بدأت تظهر عبقرية (سمير) سواء في تميزه في مادة الدين واللغة العربية خصوصا، أو في ارتباطه بالأستاذ الشيخ عبدالله الذي وضعنا على طريق (التكوين) من خلال الثورة التي احدثها في تعليم مادة التربية الاسلامية. لقد وعى (سمير) حينها ان الشيخ عبدالله يريدنا لأمر جلل ويُعِدُّنَا لمهمة عظيمة.. التقط (سمير) الرسالة قبل ان نلتقطها بكثير، لذلك وقع اختيار الاستاذ الشيخ عبدالله عليه دون غيرنا ليكون رسوله الينا، وحلقة الوصل بينه وبيننا..
في احد الايام أبلغنا (سمير) ان الشيخ عبدالله يريدنا في بيته الواقع قبالة المدرسة تماما، وقد كان قد تزوج منذ فترة قصيرة، وذلك بعد انتهاء الدوام المدرسي وإنهاء الوظائف البيتية والاستراحة. كان اللقاء الاول الذي نقلنا من طور إلى طور آخر، ومن منزلة إلى اخرى.. شَرَّفَنَا الله تعالى أن نكون اول كادر طلابي في الحركة الاسلامي الاسلامية التي أسسها الشيخ قبل سنتين فقط، وكان (سمير) على رأس هذه المجموعة ورائدها. منذ ذلك اليوم و(سمير) من أركان حركتنا واعمدة دعوتنا المباركة. كان له دوره المركزي والفعال في كل نشاطات الحركة الاسلامية في تلك الفترة ابتداء من يوم الارض الاول 30.3.1976 وكنا يومها في الصف الحادي عشر، والذكرى العشرين لمجزرة كفر قاسم 29.10.1976 ، كما كانت له مشاركاته في نشاطاتها على المستوى القطري أيضا..
لم يكن من الصعب علينا ملاحظة النزعة الروحية للشيخ (سمير) منذ تلك الفترة المبكرة من الدراسة الثانوية، والتي بدأت تظهر بوضوح في مرحلة مع بعد الدراسة الثانوية، حيث اختار اغلب مجموعتنا الدراسة الجامعية بينما اختار آخرون الاعمال الحرة.. كان (سمير) من الذين اختاروا الطريق الثاني لأسباب اقنعنا بها في تلك المرحلة، مع أننا كنا حريصين ان تستمر المجموعة كلها في دراستها الجامعية كجزء من خطة الشيخ المؤسس لبناء كادر اكاديمي هو الاول من نوعه في الحركة يكون طليعة حركة طلابية تحمل لواء الحركة الاسلامية، وتبشر برسالتها في اوساط الطلاب على اعتبارهم مستقبل أي تنظيم يسعى ليكون مؤثرا وفاعلا في توجيه بوصلة المجتمع، ومشاركا بقوة واحترافية مع غيره من التنظيمات التي سبقت بأشواط تجربةً وممارسةً من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية.
بقيت مجموعتنا وعلى رأسها الشيخ (سمير) على تواصل مستمر، كما ظلت في قلب الاحداث، وفي طليعة اعمال ونشاطات الحركة الاسلامية محليا وقطريا. جاءت فترة الاعتقالات على خلفية ما اصطلح على تسميته ب – (أسرة الجهاد) في العام 1980/1981، والتي اعتقل فيها اخوه الشيخ (عمر/ابو حمزة) القيادي في الحركة الاسلامية، والذي حكم عليه بالسجن الفعلي لخمس سنين، لتزيده صلابة في مواجهة الواقع الجديد، ونشاطا ساهم بشكل كبير في تجاوز الحركة محليا (كفر قاسم) وقطريا، المحنة من حيث نجاحها في امتصاص الصدمة اولا، واستعادة التوازن ثانيا، بما يضمن استمرارها في اداء دورها بكل شموخ وكبرياء. خاض الشيخ (سمير) معنا تلك التجربة الفريدة فكان الأبَرَّ بدعوته، والاصدق في اللقاء، والاشجع عند الشدائد، والأصبر عند الابتلاء.. كان الحضن الدافئ والصدر الحنون لأسرته اما وأبا وإخوة وأخوات في تلك الظروف الصعبة، كما كان السند المخلص والصدوق لدعوته في تلك المرحلة الحرجة.. كان معنا ليلا ونهارا، سرا وجهارا، وضع كل إمكاناته في خدمة الاسلام والدعوة، فكان من خير ابناء الحركة والذي اعترف له الجميع بصدقه وبلائه.
بعد ان هدأت العاصفة بدى واضحا سلوك الشيخ (سمير) طريق التخصص النادر والاصعب الذي لا يقوى عليه الا القلة، ولا يختار الله له إلا الصفوة من عباده، لما يشكلونه من صمام أمان لدعوتهم وأمتهم على حد سواء.. اختار ان يحمل على أكتافه العبء الاكبر والدرع الاثقل الذي آمن أن حركةً أو امةً لا يكون فيها من يحمله لن يكتب لها لنجاح او الفلاح. استقر هذا السر في قلب الشيخ (سمير) فجاء التوفيق والتيسير من الله سريعا، فجمع الله عليه فضل السر والعلن، فزاوج بين السلوك واعمال القلوب وما يثمرانه من فتوحات ظاهرة وباطنة، وبين العمل الشرعي والنظر القرآني، فبلغ درجةً أصبح معها داعية دون ان ينطق، ومثلا اعلى دون ان يصعد منبرا أو يجلس على كرسي تدريس.. شعاره: حقيقية الدين، الصدق مع الحَقِّ وحسنُ الخُلُقِ مع الخَلْق.. كان مثالا لحالة التوازن التي لا بد منها لكل مسلم عموما ولمن اختارهم الله للقيام بمهمة تبليغ الدعوة على وجه الخصوص، فرفض بعض التوجهات التي بالغت في الاهتمام بالروحانيات واعمال القلوب واهملوا الى حد كبير العلم الشرعي، كما رفض بنفس القوة التوجهات التي بالغت في الاهتمام بالنصوص والعلوم الشرعية على حساب السلوك واعمال القلوب.. لقد رأى في ذلك خللا خطيرا لا بد من العمل على الخلاص منه من خلال خطوات عملية كان رائدا فيها..
لم نفهم يوما حقيقة خبر الاسلام الذي انتشر في أغلب قارات العالم القديم التي لم تصلها فتوحات المسلمين، ودخول شعوب وامم بأكملها هذا الدين العظيم ولم يبلغها ظل خلافة المؤمنين، بل انتشر على أيدي الدعاة المخلصين والعلماء الربانيين والتجار الصالحين الذين كانوا أشد تأثيرا في شعوب الارض من جيوش جرارة وحكومات كَرّاره.. ذَكّرَنا (سمير) بأولئك الصالحين من أسلافنا، فكان الداعية المؤثر في الناس بسلوكه وكلامه العذب وصدقه ودينه وعبادته وزهده وتجرده، بعيدا عن لقلقة اللسان والمقارعة بالحجة والبيان.
مَثَّلَ الثلاثي المبدع فضيلة المؤسس الشيخ عبدالله نمر درويش – رحمه الله – والشيخ امين ذيب بدوي والشيخ سمير احمد صرصور، مدارس يندر وجودها في مكان واحد كما وُجِدت في كفر قاسم.. لذلك كان من الطبيعي ان تكون العلاقة بينهم الاقوى على الاطلاق لوعيهم بالدور الخطير الذي اختارهم الله له..
كان الشيخ المؤسس مفجر الصحوة ومشيد بنيان الحركة والدعوة، وامتلك من ادوات هذه الصناعة ما امتلك من العلم الشرعي والحركي والكاريزما الشخصية والقدرة الخطابية والمهارات التنظيمية والمسحة الروحية، فقضى عمره في هذا الميدان يصل الليل بالنهار مقارعا في مختلف الساحات الداخلية والخارجية التي أخذت منه أغلب وقته وَجُلَّ جهده. كان الشيخ عبدالله داعية من الطراز الاول، وقائدا فذا لا يشق له غبار، لكنه بحسه المرهف ودرايته العميقة وحنكته التنظيمية، عرف ان الدعوة بحاجة إلى تخصصات من اهمها التربية يحترفها من حباهم الله بما يؤهلهم لمهمة القيام بأعبائها، فَيَسُدُّون بذلك ثغرة من اخطر الثغرات في بناء الدعوات الربانية، عليها المعول – بعد الله – في صناعة الرجال العاملين وإرفاد الحركة بالدعاة المخلصين الذين يعملون على فتح القلوب وتوجيه الارواح قبل القوالب والاجساد.
كان الشيخ (امين ذيب بدوي) السيد الذي لا يُبارى في هذا الشأن، والفارس الذي لا يجارى في هذا الميدان.. تخصص في التربية الربانية بما اعطاه الله سبحانه ويسر له من ادواتها، وفتح عليه من كنوزها وأسرارها، حتى أصبح المرجع في هذا الباب بلا منازع، يقوم على تدريس هذا العلم بشكل منتظم في محاضرة اسبوعية كل يوم جمعة ما زالت مستمرة تستقطب المريدين والباحثين عن الحقيقية والشريعة في ذات الوقت منذ العام 1996 وحتى الان بلا انقطاع، وفي خطب الجمعة المميزة التي ينتظرها الجميع على أحر من الجمر، وفي مواعظه الربانية التي يلقيها بانسيابية ممتنعة في كل محفل او مجلس يجمعه مع آخرين، فتراه كالنهر الزاخر وكالبحر الهادر الذي ينثر جواهر الكلمات فتبهر العقول وتسلب الالباب وتستقر في القلوب والوجدان. لقد اعطاه الله (العلم اللَّدُنِيّ) و (العلم الشرعي)، واعطاه فوقهما حظا وافرا من اساليب الدعوة، والقدرة على الاقناع وفنَّ اقتحام القلوب بأسلوب عذب ومنطق سليم..
اما الشيخ (سمير) فكان ثالث الاثافي في هذه الصناعة ولكن بأسلوبه هو، فلا هو الشيخ عبدالله درويش في قدراته التنظيمية ومهاراته الدعوية، ولا هو الشيخ امين ذيب في فنونه الوعظية ودروسه الروحية وفنونه التربوية، لكنه (سمير) نسيج وحده في الدعوة بالرقيق من الإشارة والقصير من العبارة..
كان الثلاثة بفنونهم المختلفة شكلا والمتفقة مضمونا، اعمدة الحكمة التي احتاجتها كفر قاسم لتكون مهبط وحي الدعوة وقاعدة انطلاقها (تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)، قضى اثنان منهما نحبهما، وندعو الله ان يطيل في عُمُرِ الثالث، وان يعوضنا عنهما خيرا.
لذلك لما سمع الشيخ (سمير) بخبر وفاة فضيلة الشيخ المؤسس بتاريخ 14.5.2017، بكى كما لم يبك من قبل. كان يعي تماما انه بموت الشيخ عبدالله - رحمه الله – فقد قُبِضَ قسطٌ من العلم والحكمة وبعد النظر غيرُ قليل، له ما بعده مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.) .. أما بعدما انتقل الشيخ (سمير) إلى جوار ربه بعد ستة أشهر بالتمام والكمال (14.11.2017) من وفاة الشيخ عبدالله، بكيناه كما بكينا الشيخ لأننا علمنا ان بوفاته قُبِضَ قسط غير قليل من الربانية والتدين العميق والتقوى النقية والبركة الظاهرة والخفية.
رحم الله الشيخ (سمير)، عاش عابدا زاهدا، وقضى حياته مقبلا على الله غير مدبر، وطالبا من طلاب الأخرة وعازفا عن الدنيا، ومات صابرا على ما ابتلاه الله من أمراض أدناها الفشل الكلوي، فلم يفتر لسانه عن شكر الله سبحانه الذي اعطاه قلبا خاشعا ولسانا ذاكرا وجسدا على البلاء صابرا..
رحم الله الشيخ (سمير) في الاولين والاخرين، وجمعنا معه ومع الشيخ المؤسس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ..
*** الرئيس السابق للحركة الاسلامية في الداخل الفلسطيني
اضف تعقيب