X إغلاق
X إغلاق
الرئيسية | من نحن | أعلن لدينا | اتصل بنا | ارسل خبر      27/12/2024 |    (توقيت القدس)

سيد قطب .."لن أعتذر عن العمل مع الله" كيف أثرت كتاباته في تشكيل التيارات الجهادية؟

من : قسماوي نت
نشر : 30/04/2018 - 00:18

"لن أعتذر عن العمل مع الله"

(سيد قطب)

اعتقال دام عشرة أعوام، ثم إفراج عنه في عام 1964، وبعد عام واحد فقط، نشر سيد قطب كتابه "معالم في الطريق"، ليُشنق بعدها في التاسع والعشرين من أغسطس/آب 1966. 

مشاهد متتالية، تتطلب قراءتها غوصا في أعماق سيد، حول نشأته، وأفكاره، وتأثيره الذي امتد ليؤسس واقعا مغايرا قاده إلى الإعدام شنقا، ولتتصل أفكاره بمن بعده لتشكل جزءا من الواقع الحالي الذي نعيشه.

 لم يكن سيد قطب رجلا دينيا بالمعنى التقليدي، فقد تلقى تعليما مدنيا لا أزهريّا، وتخرج في كلية دار العلوم، وهو ما جعله يلبس البذلة عوضا عن العمامة. كما كان قطب أحد النخب الثقافية في زمانه، وقد سافر إلى أميركا في منحة ساعده فيها بعض الوجهاء، على رأسهم المؤرخ المصري محمد شفيق غربال [أ]. هذا الحال أدى إلى نشأة سيد نشأة لها دراية بالثقافة الأوربية والشرعية على حد السواء، بعيدا عما عُرف عن رجال الدين من انسحابهم عن الاشتباك مع الحياة العامة وقضاياها، وهو ما أتاح له قدرة التعرف على الفلسفات الغربية الوافدة.

 ورغم تكوينه الثقافي فإن كتبه التي حوت أفكاره حول الإسلام ومفاهيمه لاقت انتشارا واسعا بين أوساط "الشباب الإسلامي" في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي [1]، وعلى الرغم مما عُرف به سيد باعتباره أديبا وناقدا، ثم مثقفا مناضلا من أجل العدالة الاجتماعية، فإن صيته قد ذاع باعتباره المنظر والمفكر الإسلامي. وما يزيد المشهد تركيبا هو ارتباط اسمه في صدارة قوائم منظري الجهاد المعاصرين، ولا تكاد تُذكر جماعات الجهاد العربية إلا مقرونة باسم سيد، فمن شكري مصطفى وصالح سرية وعبد الله عزام وعبود الزمر حتى أيمن الظواهري كان سيد هو الحاضر الغائب في استشهاداتهم [2]، وهو ما دفع البعض إلى أن يتهم سيد بأن كتاباته وأفكاره، فضلا عن مواقفه العملية، كانت وراء تأسيس أجيال الجهاديين في الستينيات والسبعينيات التي انتشرت في أرجاء الأرض. ليصبح اسم "سيد قطب" تهمة في حد ذاته، حيث كثيرا ما اقترن اسمه بالإرهاب في مراكز الأبحاث الغربية، حتى مُنعت مؤلفات سيد في العديد من البلدان العربية [3].   

  

في البدء كان قطب الأديب

"إلى هذا الملأ من الأدباء والشعراء والقصاصين والباحثين الذين أوحوا إليّ بهذه الفصول نقدا لأعمالهم الأدبية.. أُهدي هذا الكتاب ردا للفضل، واعترافا بالجميل"

(سيد قطب، مقدمة كتاب " كتب وشخصيات")

  

عُرف سيد قطب في المجتمع المصري أول ما عُرف كواحد من النخبة المثقفة أديبا وناقدا، وفردا من أفراد مدرسة أبوللو ذات الصلة بالأديب عباس محمود العقاد، وقد كان لقطب صلة بأدباء ووجهاء عصره، يقول صلاح الخالدي: "ومن الأدباء الذين لسيد بهم علاقة وصلة طه حسين، وأحمد حسن الزيات، وعبد القادر حمزة، وأحمد زكي باشا، وتوفيق الحكيم، وإبراهيم عبد القادر المازني، ويحيى حقي، ومحمود تيمور، ومحمد مندور، وعبد الحميد جودة السحار، وعبد المنعم خلاف، وعباس خضر، وعلي الطنطاوي، وأنور المعدّاوي، ونجيب محفوظ وغيرهم" [4].

 

لكن شهرة سيد، على ما بلغت مداها، فإنها أتت عقب إعدامه، ليتعرف الشباب عليه بعدها بصورة واسعة، ولتصل كتبه إلى شرائح مختلفة، متصدرة بذلك الكتب الأكثر مبيعا.

  

بيد أن هذه الكتابات، التي اشتهر بها، لم تعرض "سيد" كناقد وأديب، ولم يكترث جمهوره من الإسلاميين بأعماله الأدبية، مثل روايته الغرامية "أشواك"، ولم يطالعوا سيرته الذاتية "طفل من القرية"، ولا هاموا بمقصوصته "الأطياف الأربعة" التي تناول فيها حياته وإخوته، محمد قطب وأمينة قطب وحميدة قطب، ولم يتعرف جمهور الإسلاميين على سيد وعلاقاته برموز الأدب من خلال كتابه "كتب وشخصيات" الذي عَرَّجَ فيه على أدباء عصره أمثال طه حسين، وعبد الحميد جودة السحار، والزيات، كما قدّم نجيب محفوظ للقراء لأول مرة كاتبا شابا له مستقبل حين عرض روايته "خان الخليلي".

    

    

هكذا طُويت صفحة سيد الأديب لدى الإسلاميين الذين يحملون اسم سيد إلى اليوم، والذين تعرفوا على قطب لأول مرة عن قُرب في معتقلات الناصرية، فكان احتفاؤهم بقطب، كمفكر إسلامي "صاحب الظلال" وليس "قطب" الأديب الناقد، وهو ما سيتبدّى لاحقا حين التنازع حول أفكار سيد قطب، والتي استثنيت منها كتاباته الأدبية.

      

احتفى أولئك الشباب بعناوين أخرى لسيد، تتصل جميعها بخيوط الإشارة إلى الإسلام، صراحة أو بصورة ضمنية، بدءا من "المستقبل لهذا الدين" و"هذا الدين"، مرورا بـ "خصائص ومقومات التصور الإسلامي" و"نحو مجتمع إسلامي"، وصولا إلى "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق".

   

سيد قطب والنظرة المثالية

"أخي إنني ما سئمت الكفاح .. ولا أنا ألقيت عني السلاح

فمن للضحايا يواسي الجراح .. ويرفع راياتها من جديد"

(من شعر قطب)

 

تميز قلم قطب في كل مراحله بالصرامة والجديّة والنظرة المثالية، وقد ظهرت مثاليته جليّة فيما شملته نصوصه الأدبية، ففي روايته الغرامية "أشواك"، كتب عن حبيبته التي أحبّت غيره، فسعى لتزويجهما وأزاح لهما الطريق، وهو ما يعكس نُبلا ومثالية أخلاقية قلّما يتحلى بها رمز نخبوي.

 

هذه المثالية والصرامة ستنعكسان بجلاء حين يخطُّ تصوره حول المفاهيم الإسلامية، ورؤيته لمجتمع الكفر والإيمان، فقد اكتست لغة قطب صرامة ومفاصلة ومثالية في آن واحد، وبحسب ما وصفه محمد حامد الأحمري، فإن سيد غلب عليه قلم الأديب، جياش الوجدان، ومنافحا عن عقيدة راسخة يتبناها [5].

   

   

مزيج ما سبق سيجعل لغة قطب الدينية تمتاز ببساطة الفكرة، مدفوعة بقوة ظهور أثرها في النفس والوجدان. وقد أحاطها زخم أظهرته ثقافته بالفلسفة الغربية، وهو ما تبين خلال كتاباته. كما أن "سيد" لم يكن فقيها ليحذو تدقيقات الفقهاء في كتاباته، ولم يسر على اصطلاحاتهم، فلم يكتب بلغة الأشعري والغزالي وابن تيمية، وإن استمد منهم. وفي إطار نقده للحداثة، فإنه لم يعرض نفسه كفيلسوف يستخدم لغة هيدجر وسارتر ونيتشه، بل انسابت منه لغة تنتمي إلى حقل دلالي جديد خاص به، في سعيه الدؤوب لإعادة تعريف دور الدين في الحياة.

   

هذه الحمولة الفكرية بتقاطعاتها، ستجعل مصطلحات سيد مثارا للجدل المستمر، وليتنازع في تفسيرها الأدباء والشعراء والفقهاء والمثقفون على السواء من بعده، وليفهمها كل أحد على غير ما يفهمها آخرون، فـ "الجماعة المؤمنة"، "المجتمع الجاهلي"، "الحاكمية"، "العزلة الشعورية"، "الجاهلية"، "المفاصلة"،  كلها كلمات خرجت من حقل دلالي مختلف وجديد تماما، لم يسبق إليه في القرن الحديث.

     

سيد قطب.. والطريق إلى معالم في الطريق

"لست ممن يؤمنون بحكاية المبادئ المجردة عن الأشخاص، لأنه ما المبدأ بغير عقيدة حارة دافعة؟!"

(أفراح الروح - سيد قطب)

   

كان سيد في أربعينيات القرن الماضي مهتما -إلى جانب كتاباته الأدبية- بنضال الشعوب والحراك الاجتماعي، مما جعله متقاربا مع الكتابات الماركسية، وهو ما أكسبه أسلوبا ثوريا مبكرا. وقد اتخذ حينها من بعض المجلات منبرا للفكر الثوري، مثل كتابته في مجلة "الفكر الجديد" ومجلة "التطور"، وقد عمل على تحرير باب بعنوان " كفاح العمال"، ليمزج فيه شيئا من الماركسية والإسلام الثوري [6]. حينها، أثار قلم قطب حفيظة الملك، على حد تعبير شريف يونس، "ليصبح سيد قطب جراء حدة كتاباته زبونا مستداما لدى نيابة الصحافة، متهما بالتجرؤ على الذات الملكية، وبإهانته لمجلس الوزراء، أو تحريض الفقراء على الأغنياء!".

   

اشتبك قطب مع المذاهب المعاصرة في زمانه مستصحبا هويته الإسلامية، والتي رسختها فيه دار العلوم، وتزامن هذا مع تقاربه من الفكر الاشتراكي، فكتب: "معركة الإسلام والرأسمالية"، ثم كتب سيد كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" عام ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين 1949، أي قبل ثورة ألف وتسعمئة واثنين وخمسين 1952 بأعوام ثلاثة. يواصل شريف يونس: "ومن ثم فإن هدف كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام هو إثبات أن استئناف الحياة الإسلامية أمر ممكن في الحياة المعاصرة". وفي عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين 1952، إبان حراك الضباط الأحرار، فإنه كتب مقالة "إسلام أمريكاني" [7] يرفض فيها تطويع الإسلام لاقتصاديات السوق والرغبات الأميركية.

   

 

    

وقد شكلت المراحل السابقة ملامح لتقاطع الرؤى بين سيد قطب وحركة الضباط الأحرار، خصوصا فيما يرتبط بالاستبداد الملكي، كما تقاطع مع حركة الإخوان المسلمين وموقفهم الحركي من قضايا المجتمع واتصالها بالإسلام. وحين قام حراك الضباط الأحرار عام اثنين وخمسين 52 كان لسيد دور كبير في دعمهم، لما عرف عنه من النقد الثوري منذ الملكية، وقد كتب عددا من المقالات تأييدا لحراكهم، أو ما يعرف بثورة اثنين وخمسين 52، ففي مجلة الرسالة كتب مقالا وأهداه إلى الضباط الأحرار "هدية للأحرار الذين طهروا الوادي وكرموه"، ووصف حراكهم بأنه استقطب حلفاءه الطبيعيين "في كتل الشعب الكادحة من العمال والفلاحين وصغار الموظفين".

  

وقد رأى سيد في هذا الحراك الثوري خلاصا اجتماعيا، وتمادى في إضفاء الشرعية على الضباط الأحرار والتبرير لمواقفهم مع مخالفيهم، فأيد موقف الضباط ضد عمال "كفر الدوار"، بل وصل به الحال ليرى أن هذه الثورة هي الأمل الوحيد، فناشد محمد نجيب قائلا: "ديكتاتورية عادلة نظيفة لمدة ستة أشهر".

  

وهو ما أدى إلى إعلاء ضباط الثورة لسيد، ورفعهم لمكانته عاليا، وقد كان قطب مرشحا لأن يكون ذا حظوة في السلطة، ويحل محل محمد حسنين هيكل على حد تعبير حسام تمام! وتوطدت العلاقة بعدها بين قطب وجمال عبد الناصر، ليعين الأخير قطب في "هيئة التحرير" [أ]، وحين عقد عبد الناصر احتفالا بهذه الهيئة، حضره الضباط الأحرار والأدباء، هتف عبد الناصر باسم قطب وقال: "فديناك بأرواحنا"، ووعده بأن الخديوي لن يصل إليه إلا على جثة عبد الناصر، قبل أن يأمر هو بإعدامه لاحقا.

   

أما الإخوان فقد كان اقتراب قطب منهم باعتبارهم المشروع الإسلامي الأبرز في زمانه الذي يحمل بعدا حركيا يمكن للشعوب أن تشارك فيه، يقول شريف يونس: "ولعل أهم عوامل تقاربه مع الإخوان، أنه كان يرى الإسلام مشروعا سياسيا اجتماعيا شاملا ويرفض طرح الإسلام كأدعية وتعاويذ واصما هذا التقليد بأنه مخدر للجماهير" [8]، ويواصل يونس أن سيد "يرى أن الشريعة قادرة على تلبية كل حاجات العصر بشرط الرجوع إلى مبادئها العامة وتشريعاتها الكلية لاستلهام الحلول التطبيقية لتلك الحاجات والمشكلات المباشرة".

   

وبتقارب سيد مع الإخوان، تقدم الإخوان بطلب إنشاء صحيفة يرأس تحريرها قطب، ومن هذه اللحظة ساءت علاقة قطب بعبد الناصر، إذ وقع بين عبد الناصر والإخوان محنة في هذا الوقت، وهو ما اعتبره عبد الناصر مناصرة من سيد للإخوان، وهو ما أدى إلى إعدام عدد من قيادات الإخوان على رأسهم عبد القادر عودة، وزج بالباقين في السجن وكان سيد قطب من ضمن هؤلاء، والذي ظل في مستشفى ليمان طرة عشرة أعوام!

   

    

معالم في الطريق والجهاديون الأوائل

"تقف البشرية الآن على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، ولكن بسبب إفلاسها في عالم (القيم)"

(سيد قطب - مقدمة معالم في الطريق)

   

زاد إيمان قطب في سجنه بالإسلام، وضرورة الانضواء تحت رايته، لينتج عددا من المؤلفات التي تتناول القضايا الإسلامية، وقد انكب على كتاب الله تدارسا وتفسيرا، ليكتب "في ظلال القرآن"، يقول قطب: "الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه. والحمد لله.. لقد من علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه"، وقد امتاز بعاطفة جياشة وانكباب على القرآن مرة أخرى لاستدعاء مفاهيمه في الحياة الجاهلية مرة أخرى، يقول قطب: "وعشت -في ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.."

  

أما آخر كتابات قطب فقد كان "معالم في الطريق" [ب]، وضمن فيه خلاصة أفكاره، وما يمتاز به جيل الصفوة المؤمنة، فالمؤمن "يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه"

   

كانت لغة سيد في المعالم حماسية، حيث بدأ كتابه بحديث عن الجيل القرآني الذي صنعه رسول الله، وهو ما يمثل دليلا إرشاديا ينبغي للجيل الحالي الاسترشاد به بحسب رؤيته، ثم طوف الحديث عن نشأة المجتمع المسلم وخصائصه، ثم تحدث عن معنى "لا إله إلا الله" والجهاد، وتناول بعض القضايا المعاصرة التي تخدش انتماء المسلم لأمته، كقضية الجنسية، حيث يعد جنسية المسلم دينه، ويختم كتابه بفصل عنوانه "هذا هو الطريق"، فليس الطريق -بحسب قطب- أن نخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى يد طاغوت عربي، فالطاغوت كله طاغوت، "وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت إلى طاغوت.. إن الناس عبيد الله وحده.. لا حاكمية إلا لله، لا شريعة إلا من الله.. ولا سلطان لأحد على أحد.. وهذا هو الطريق" [9].

    

  

    

أكثر سيد قطب من الحديث عن تربية العصبة المؤمنة أو ما وصفه سيد بـ "القلة المؤمنة من المخلصين الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها" ، وأن العالم بحاجة إلى المسلم أكثر من أي شيء، حيث يقول: "إن المؤمن هو الأعلى.. الأعلى سندا ومصدرا، فما تكون الأرض كلها، وما تكون القيم السائدة في الأرض؟ والاعتبارات الشائعة عند الناس؟ وهو من الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير"، وقد أكثر في كتابه هذا من الحديث عن إفراد الله بالحاكمية [ج].

   

هذه السمات -بحسب شريف يونس- رسخت للإسلام "القطبي" الذي لا يرى إلا الأبيض والأسود، يقول يونس: "مفهوم الحاكمية يضع الأساس الفقهي للإسلام القطبي على نحو مذهل في شموليته وصرامته"، ويواصل يونس رؤيته لفكرة قطب: "ومن الناحية العملية، تقضي هذه الفكرة إلى تكفير النظام والمجتمع القائمين في مصر" [10]، وهو ما أنتج التيار الجهادي المعاصر.

      

من معالم في الطريق إلى التضحية في الطريق

"لقد ضربوني ستة آلاف وخمسمئة سوط، وكانت غرف التعذيب ثلاثين غرفة تختلف أدوات التعذيب في كل واحدة عن الأخرى"

(زينب الغزالي عن حوارها بينها وبين قطب)

    

يكاد يتفق الباحثون حول أثر كتابات سيد قطب في جيل الجهاديين الذي ظهر سبعينيات القرن الماضي، فشريف يونس، المؤرخ العلماني، يحمل قطب أثر الجماعات الجهادية التي ظهرت في زمانه[11]، أما المؤرخ والمنظر الجهادي الشهير أبو مصعب السوري فيقول: " كان فكر سيد قطب نقلة نوعية للصحوة الإسلامية عموما، وجسد كتاب "المعالم" فكر سيد، وهو فكر الحاكمية والتمايز والمفاصلة، الرسم لطريق الجهاد" [12]، ويقول أيمن الظواهري أحد أعضاء جماعة الجهاد والقيادي البارز بالقاعدة: "بدأت الحركة الجهادية في مصر مسيرتها الحالية ضد النظام بعد منتصف الستينيات حينما قام النظام الناصري بحملته الشهيرة سنة ألف وتسعمئة وخمسة وستين 1965 ضد الإخوان، وأعدم الأستاذ سيد قطب" [13].

   

بدأ تأثير سيد قطب في مواجهة الأنظمة جليا في حياته، واتضح ذلك في إرهاصات تنظيم ألف وتسعمئة وخمسة وستين 1965 الذي أشرف قطب على تكوينه من شباب الإخوان، حينها، عمل على إعداد العدة لإزالة النظام الناصري، وهو ما وجه أنظار السلطة إليه بعدائية تتطلب الاستئصال،  ليحال قطب بعدها إلى محكمة أمن الدولة العليا بتوقيع صلاح سالم رئيس النيابة، وليعدم سيد قطب وستة آخرون من أعضاء التنظيم على رأسهم محمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل وعلي عبده عشماوي، وتراوحت الأحكام بين باقي المتهمين، حينها، حكم على الحاجة زينب الغزالي بالمؤبد والأستاذة حميدة قطب بسنوات عشر مع الأشغال الشاقة! [14]

       

   

ظهر بعد فترة وجيزة عدد من المعتقلين ممن تلقوا أفكار قطب، ليكفروا كل من لم ينتم إليهم، حتى وصل بهم الحال إلى تكفير الإخوان المسلمين أنفسهم [15]، وكان على رأسهم "شكري مصطفى" مؤسس جماعة المسلمين، والتي مدت أفكار قطب لنهايتها وزعمت أن كل من خرج عنها وأقر بإسلام المجتمعات المعاصرة فقد وقع في الكفر والجاهلية الكبرى، وقد كان شكري أحد المقربين من قطب في معتقله، وقد زعمت السلطات المصرية أن هذه الجماعة كانت خلف اختطاف ومقتل الشيخ الذهبي، شيخ الأزهر المصري، لينفذ حكم الإعدام في شكري مصطفى ورفاقه [16].

    

تتابع خروج الجماعات المسلحة التي تدعي الانتساب إلى قطب، وكان منها جماعة "صالح سرية "، أو ما عرف بـ "الفنية العسكرية"، والتي بنى مؤسسها صالح سرية دعائمها على أفكار سيد قطب، وتجلى ذلك في ذكره لاسمه غير مرة في مرافعاته [17].

  

نشأت في ذات الفترة الزمنية الجماعة الإسلامية في مصر، وحين تأسست على يد الشيخ حسن عبد الرحمن تبنت الكثير من أدبيات قطب الحماسية، لا سيما المعالم، وقد نجحت في اغتيال السادات على يد خالد الإسلامبولي وعبود وطارق الزمر وآخرين بالتعاون مع تنظيم الجهاد المصري.

   

ثم تأسست جماعة الجهاد في مصر، وهي التي نشأت بالكامل على أفكار قطب، وكان عدد من قياداتها تلاميذ له، وقد كتب أيمن الظواهري القيادي في جماعة الجهاد فصلا في كتابه "فرسان تحت راية النبي" بعنوان: "البداية"، وجعل أفكار سيد قطب المحرك الأول للجهاد في نفوسهم [18].

 

    

وقد تحول أعضاء هذه الجماعة فيما بعد إلى تيار القاعدة الذي اعتمد عليه أسامة بن لادن في حرب أفغانستان، وعلى رأسهم أيمن الظواهري الذي أصبح الرجل الثاني في التنظيم بعد ابن لادن، يقول أبو مصعب السوري: "الشيخ أسامة بنى القاعدة على جهود كوادر من تنظيم الجهاد المصري أساسا" [19].

   

ولم يتوقف أثر سيد على تيار الجهاد المصري، فقد تأثرت به طوائف عديدة من الجهاديين في العالم المعاصر، مثل تأثر تلاميذ الشيخ مروان حديد في سوريا وقتالهم للنظام عام 1975 ألف وتسعمئة وخمسة وسبعين [20]، وكان الاحتفاء الجهادي بسيد عظيما في الخطب والهتافات، وهو ما جعل رمزا جهاديا دعويا مثل الشيخ عبد الله عزام يكثر من ذكره في خطبه ومصنفاته [21]. لكن هذه الأفكار رغم ما آلت إليه، فإنها أثارت نقاشا محتدما حول المعاني ودلالاتها، وهو ما امتد لنقاشها داخل الإخوان في سعيهم لتجليتها.

       

النزاع الإخواني الإخواني حول سيد قطب

"فهذه أبحاث حول الآراء التي ظهرت بين حين وحين، ولما لم يكن وجه الحق فيها ظاهرا، رأينا أن نتعرض لها بالتمحيص، فلا يقع أحد في شبهة أو إشكال"

(حسن الهضيبي مرشد الإخوان - مقدمة "دعاة لا قضاة")

 

نشب خلاف واسع بين أعضاء جماعة الإخوان على فكر سيد قطب منذ كان في المعتقل، وقد ظهرت بعض الأنوية "التكفيرية" المنتسبة إلى الإخوان في ليمان طرة، فأرسل إليهم الهضيبي إما أن يتراجعوا عن فكرهم وإما أن يفصلهم من الجماعة [22]، وقد أرسل إليهم المستشار سالم البهنساوي والدكتور عبد العزيز كامل العضو السابق في التنظيم الخاص لمناقشتهم، ليتناقش سيد قطب مع قادة من الإخوان مثل سالم البهنساوي وفريد عبد الخالق سكرتير البنا السابق. ويذكر بعضهم أن سيد قطب أعلن حينها أنه ما قصد تكفير المجتمعات بالعموم، لكن الخلاف بين قطب وتيارات من الإخوان ظل قائما في المعتقل.

   

كتب الهضيبي بعد ذلك رسالة بعنوان "دعاة لا قضاة" بعد موت قطب ليرد على التكفير الذي استشرى بين الإخوان في هذه الفترة، وتبناه عدد من المقربين من قطب، في المعتقل، بيد أن الهضيبي لم ينسب إلى سيد قطب شيئا من تلك الأفكار التي استشرت، وكان يظهر له التبجيل والمودة في حياته.

      

حسن الهضيبي، مرشد الإخوان المسلمين السابق

 
مواقع التواصل
   

يبدو إذا أن محاولة تفسير كلام سيد باعتباره قد حمل من الدلالات ما لا تحتمله نصوصه الأصلية لم تلق إجماعا، فعلى الرغم من توقير الشيخ يوسف القرضاوي لسيد قطب إذ يقول: "لا يشك دارس منصف ولا راصد عدل في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له. ولا شك في إخلاص سيد قطب لفكرته التي آمن بها، ولا يشك في حماسه لها، وفنائه فيها، وأنه وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصة من أجلها" [23]، فإن الشيخ ذكر في مذكراته "سيرة ومسيرة" أن سيد قد أخطأ العبارة والمعنى ولم يكن موفقا في كتاباته بشأن المجتمع والعصبة المؤمنة، ويقرر القرضاوي بوضوح تحت عنوان "وقفة مع سيد" بأن فكر سيد اقترب من "تكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم "أسقطوا حاكمية الله تعالى" ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية".

   

أو على أقل تقدير فإن كلام سيد متناقض ويرد بعضه على بعض، يقول القرضاوي: "فأنا أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة، التي خالف فيها سيد قطب أفكاره القديمة.. وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض سيد قطب الداعية المسالم، أو بإسقاطها على كتبه، فإن سيد قطب صاحب "العدالة" عارض فيها سيد قطب صاحب "المعالم"" [24]. 

     

      

على الضفة الأخرى، دافع البعض عن قطب، باعتباره لم يقصد التكفير، وإنما كان هذا مما نسب إليه، وعلى رأسهم الأستاذ محمد قطب رحمه الله شقيق قطب الأصغر، إذ ورد ذلك في رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن الهرفي يقر فيها بأن سيد تراجع عن كل ما كتب، سوى الظلال والمعالم، وعدد يسير من المؤلفات الإسلامية، وهذه الكتابات هي ما يمكننا محاكمة فكر سيد إليها [25].

     

جواب من محمد قطب عن الأعمال التي لم يتراجع عنها سيد قطب من وجهة نظره

 

وكتب الداعية السعودي سلمان العودة مقالا يدافع فيه عن قطب بعنوان : ( سيد قطب في الميزان )، يواصل المستشار علي جريشة نفي قصد قطب للدلالات اللفظية لأفكار بعينها، ففي حواره مع عمرو محمود، يقول جريشة: "والتحقيق العلمي يثبت أن الأستاذ سيد قطب ليس مسؤولا؛ لأن ما قاله من عبارات لا يؤخذ بها معنى التكفير، وقد أكد ذلك أخوه الأستاذ محمد قطب الذي نفى عنه تماما هذه التهمة" [27].

 
هذا الرأي هو ما مال إليه راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة بتونس، ونفى عنه أن يكون حكرا على تيارات التشدد، وهو ما أورده في مقال عنونه بـ "ما مدى مسؤولية قطب عن حركات التكفير والعنف؟"! [28]

  

وفي مشهد لا يبتعد كثيرا عن سابقيه في محاولة تفسير أفكار سيد قطب، تتبع الدكتور معتز الخطيب هذه الأقوال المتفرقة حول سيد ليظهر المفارقات التي تتبدى حين القراءة لسيد، في رسالة نشرها بعنوان: "سيد قطب: أزمة أفكار أم إشكالية قراء".

  

تبقى التأويلات لأفكار سيد قيد منازعات مستمرة، وعلى الرغم مما سال من حبر فهما لأفكاره، أو سعيا لإثباتها، فإن سيد سيظل حالة عصية على التفسير السطحي في العمل الإسلامي المعاصر، حيث يظهر جليا أن أفكار سيد تحمل ثقلا رمزيا مرتبطا بشخصه، لا بمداد قلمه فقط، وما خطه من أفكار تلقفها من بعده أناس ومآرب شتى. فالدم الذي سال منه دفاعا عن كلماته وأفكاره، أعطى لأفكاره عمقا استمده من تضحيته وإيمانه العميقين، واللذين بذل من أجلهما روحه، في سبيل الدفاع عن الفكرة والكلمة. وهذا البعد، من حيث ثقله الرمزي، هو ما يمكن الانطلاق منه لفهم التأثير الذي خلفه سيد من ورائه، أيما كان المعنى الذي استندت إليه الفكرة الأصلية، وأيما كان التأويل.

 

لارسال مواد واخبار لموقع قسماوي نت البريد: info@kasmawi.net

اضف تعقيب

ارسل