عندما يتعلق الأمر ببنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن عدة ثوابت يمكن استيضاحها من تاريخ الرجل تجعل من التنبؤ بأفعاله أمرا ممكنا، أبرز هذه الثوابت أنه بصرف النظر عن السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا، فإن نتنياهو لا يرغب في شيء قدر رغبته في البقاء في منصبه (1) لأطول فترة ممكنة، ليتحول إلى ملك متوج لإسرائيل كما يحب أنصاره أن يطلقوا عليه أحيانا.
في ذلك السياق على وجه التحديد، تبقى ردود أفعال نتنياهو واضحة ومتفهمة تماما، ومنها بالتأكيد رد فعله على الأزمة الإعلامية التي أشعلتها الممثلة والمذيعة الإسرائيلية "روتيم سيلا" مطلع الشهر الحالي بسؤالها على وسائل التواصل عن مشكلة العرب داخل دولة الاحتلال (2) مفترضة أن العرب داخل إسرائيل يتساوون في الحقوق والواجبات مع غيرهم باعتبار إسرائيل دولة لكل مواطنيها، بحسب مزاعمها، حيث لم يجد نتنياهو المعروف بـ "بيبي" حرجا في اليوم التالي من الإعلان صراحة أن إسرائيل ليست دولة لكل المواطنين، وأنه وفقا لقانون الجنسية الأساسية الذي تم تمريره مؤخرا فإن إسرائيل هي دولة اليهود فقط.
لا تتعارض تعليقات نتنياهو في واقع الأمر مع سياسات دولة الاحتلال داخليا وخارجيا، لكن ما يُشكّل فارقا هنا كان المدى الذي قد يذهب إليه نتنياهو لاستعادة شعبيته المفقودة والفوز بالانتخابات القادمة في التاسع من أبريل/نيسان، ففي ظل تصاعد الاتهامات بالفساد ضده داخليا، حيث لم يكن أمام "بيبي" من خيار -في سبيل استرداد ثقة العامة في إسرائيل- سوى التلويح بورقة الأمن التي يجيدها جيدا والتهديد بحرب جديدة ضد قطاع غزة المحاصر.
كان انطلاق عدة صواريخ من قطاع غزة تجاه الأراضي المحتلة (3)، وبشكل متوالٍ خلال الأيام المعدودة الماضية، فرصة ذهبية لنتنياهو فيما يبدو للعب بورقة الأمن القومي مجددا وحشد إسرائيل في حرب افتراضية منتظرة ضد قطاع غزة من أجل فرض أجواء حربية على الانتخابات المقررة في التاسع من أبريل/نيسان.
في الحقيقة، لا يعد الرهان على الحرب لأجل تحقيق النجاح السياسي أمرا مستبعدا على نتنياهو، كما لم يكن التهديد بالحرب في غزة أمرا جديدا خاصة خلال الأشهر الأخيرة، ففي نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، بدأ التلويح بخيار المعارك العسكرية على الحدود (4) باعتباره السبيل الوحيد المتبقي أمام "بيبي" لاستعادة ثقة الإسرائيليين في قدرته على حمايتهم، لكن فتيل التصعيد غالبا ما كان يتم نزعه في اللحظات الأخيرة لتجنب الدخول في حرب فعلية مكلفة يبدو أن نتنياهو نفسه ظل يرغب في تجنبها، وهو ما يكشف عن إستراتيجية نتنياهو الذي يرغب في الحفاظ على فرص الحرب قائمة من أجل تعزيز مكانته السياسية، في الوقت الذي لا يبدو فيه راغبا في خوضها بشكل فعلي مع عدم قدرته على التنبؤ بمآلاتها في المقام الأول.
يسري اعتقاد (5) في أروقة السياسة الدولية بأن قادة كلٍّ من الفصائل الفلسطينية ودولة الاحتلال ليس لهما من الأمر شيء حينما يتعلق القرار بأحدهما والآخر، فالتوقعات دائما ما تفرض نفسها على كلا الطرفين: على الجانب الفلسطيني بحتمية مقاومة المحتل، وفي إسرائيل بحتمية مواجهة أي تهديدات لدولة الاحتلال وأمان مواطنيها.
في ضوء ذلك، فإن فرص الذهاب إلى الحرب لا تخضع فقط لقرارات السياسيين بقدر ما تخضع لتأثير سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي يمكن أن تقود في النهاية إلى الحرب، وهو ما يمكن باختصار أن يصف الوضع الحالي على الحدود بين قطاع غزة وجنوب الأراضي المحتلة منذ الرابع عشر من مارس/آذار الحالي، حين انطلق صاروخان، يزعم جيش الاحتلال أنهما خرجا من داخل القطاع نحو تل أبيب ليسقط أحدهما في المياه ويسقط الآخر في منطقة غير مأهولة، دون أن يتسببا في إحداث خسائر تُذكر.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يضرب فيها صاروخ طويل المدى تل أبيب منذ نهاية معركة "العصف المأكول" بين حماس وجيش الاحتلال عام 2014، لكنها لم تكن الأخيرة، فبعد ذلك بعدة أيام، وفي صباح الخامس والعشرين من الشهر ذاته أعلن جيش الاحتلال من جديد عن احتراق أحد المنازل في منطقة مشمريت، شمال مدينة كفر سابا الواقعة شمال تل أبيب، وإصابة سبعة أفراد (6) نتيجة سقوط صاروخ قادم كذلك من غزة، وهو ما كان كفيلا بإعادة أشباح الحرب إلى الواجهة مجددا.
في الظروف الطبيعية، كان تبرير حماس بأن الصاروخ قد أُطلق عن طريق الخطأ ربما ليكون كافيا لنزع فتيل التصعيد، لكن ما أثار حفيظة نتنياهو أن الواقعة أعادت إلى الأذهان أشباح نزيفه السياسي في أعقاب الفشل الذريع لعملية خان يونس في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي التي دفعت نتنياهو لقبول هدنة مع حماس تسببت في تقويض تحالفه الحاكم بعد استقالة وزير دفاعه "أفيغدور ليبرمان" احتجاجا (7) وانسحاب حزبه من التحالف الحاكم، استقالته بررها ليبرمان بعدم رضاه عن "تساهل" نتنياهو المزعوم في التعامل مع التهديدات القادمة من قطاع غزة على حد وصفه.
لم تتسبب استقالة ليبرمان في انهيار التحالف الحاكم ودفع إسرائيل نحو انتخابات مبكرة فحسب، لكنها تسببت في اهتزاز شعبية نتنياهو أمام الرأي العام المتشدد في إسرائيل والذي تهيمن عليه توجهات اليمينيين المطالبين برد فعل حازم تجاه صواريخ المقاومة، وهو ما ترك نتنياهو بلا خيارات غير التصعيد في مواجهة الصواريخ الغزاوية، بالنظر إلى موقفه الانتخابي غير المستقر، والمنافسة الشرسة التي يواجهها خاصة من تحالف الأزرق والأبيض بقيادة رئيس الأركان الأسبق بيني غانتز.
غير أن نتنياهو -ورغم كل شيء- يبدو راغبا في الحفاظ على سياسة التصعيد المنضبط، أو التلويح بالحرب دون المخاطرة بخوضها في النهاية، خاصة أن شن عملية عسكرية قبيل الانتخابات ربما يأتي بنتائج عكسية ويفتح أبواب الجحيم على نتنياهو إذا ما اقترنت بخسائر بشرية في صفوف الاحتلال، خاصة أنها ستأتي مع وابل من الصواريخ التي يكرهها نتنياهو كثيرا لأنها تصيب شعبيته في المقام الأول، لكن هذا ليس وحده ما يجعل من حرب جديدة في هذه الفترة -أي قبل الانتخابات- احتمالا بعيدا نسبيا، فعلى الجانب الآخر من السياج الأمني في غزة، تعاني حماس هي الأخرى من سنوات طويلة من الحصار الذي يكاد يهوي باقتصاد غزة إلى قلب الهاوية.
يكشف التقرير الصادر عن البنك الدولي في سبتمبر/أيلول الماضي عن حالة من "السقوط الحر" التي يعاني منها اقتصاد القطاع بفعل إحدى عشرة سنة تقريبا من الحصار الإسرائيلي-المصري، أضف إلى هذا قرارات واشنطن بقطع كافة المساعدات عن الفلسطينيين وخاصة منظمة غوث وتشغيل اللاجئين، الأونروا، باعتبارها أحد مصادر التمويل التي تمد غزة -وحكومة حماس بالتبعية كما ترى واشنطن-، وقد أدى كل ذلك إلى مزيد من التردي الاقتصادي مع ارتفاع معدلات البطالة التي وصلت لما يعادل 70% بين شباب القطاع.
تركت تلك الحالة المتسارعة من الانهيار الاقتصادي قطاع غزة على شفا الهاوية، وترافق ذلك مع المظاهرات التي انطلقت شرارتها في مارس/آذار الماضي تحت شعار "بدنا نعيش" (8) وتدخلت قوات الأمن التابعة لحركة حماس لقمعها، تزامنا مع زيادة وتيرة التراشق بين حماس وفتح على خلفية اتهام الأولى للأخيرة بتقويض دعائم حكمها في القطاع، وتقيد هذه العوامل مجتمعة من رغبة حماس وقدرتها على الدخول في حرب جديدة من الأساس، رغم أن الحركة حريصة دوما على تأكيد أنها تظل مستعدة للحرب إذا ما اضطرت إليها بسبب تصعيد الاحتلال.
يبقى الموقف حول حدود غزة مغلفا بعدم اليقين إذن، في ظل أجواء حربية تغذيها الاحتمالات النظرية والدوافع الداخلية أكثر من الرغبة الفعلية في خوض الحرب، التي يبدو كلا طرفيها منشغلا عنها بمشاكله ومعاركه السياسية الخاصة والأكثر إلحاحا في الوقت الراهن، حتى وإن لم يكف كلا الطرفين عن تأكيد أولويته الكبرى التي تمنحه الشرعية من الأساس، وهي القضاء على الطرف الآخر.
تبدو فكرة انتماء غريم نتنياهو الأهم حاليا "بيني غانتز" لليسار الوسط في إسرائيل مغرية، استنادا إلى التقسيمات الكلاسيكية التي تُظهِر اليمينيين دوما كأنصار للخيارات الحربية في التعامل مع الفلسطينيين، في حين أنها تُظهِر اليساريين بوصفهم أكثر ميلا للوصول لحلول سلمية عبر المفاوضات (9).
وفي ضوء تلك النظرية، ومع المنافسة الشرسة التي يبديها تحالف "غانتز" لليكود نتنياهو في استطلاعات الرأي، قد يبدو خيار استبدال نتنياهو لصالح حكومة للوسط أو يسار الوسط خيارا جذابا للفلسطينيين، وربما يكون هذا هو منشأ الاعتقاد السائد بأن الفصائل الفلسطينية -وعلى رأسها حماس- ربما تكون قد بدأت بنفسها إطلاق الصواريخ على إسرائيل قبيل الانتخابات المقبلة من أجل زعزعة موقف نتنياهو قبيل الانتخابات.
لكن هذه النظرية تتجاهل الحقائق التي يدركها الجميع حول دولة الاحتلال، وفي مقدمتها أن الأمن القومي يبقى الأولوية القصوى للرأي العام الإسرائيلي وللسياسيين من جميع الأطياف، وأن المجتمع الإسرائيلي يخضع منذ عقدين على الأقل لسياسات يمينية صرفة، وهي تغفل أن غانتز نفسه هو قائد سابق لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يجعله مدافعا صلبا عن السياسة الأمنية، الأمر الذي ظهر في انتقاداته الأخيرة لفشل نتنياهو وتساهله في وضع حد لصواريخ المقاومة التي تهدد الداخل الإسرائيلي، بحسب رأيه.
إن عملية شاملة قد تكلف جيش الاحتلال كثيرا، بينما استهداف قادة المقاومة سعيا للقضاء على أهداف رفيعة المستوى قد يحفظ ماء وجه إسرائيل
غير أن رد فعل نتنياهو لم يكن متساهلا بحال، فإلى جانب استدعاء لواءين من المدرعات والمشاة إلى الحدود (10) مع غزة، وإغلاق معبري كرم أبو سالم للبضائع وبيت حانون للأفراد، وتقليص مساحة الصيد للفلسطينيين، وكذا فتح الملاجئ في كافة مناطق الجنوب المحتل، لم يتوقف جيش الاحتلال عن إطلاق الغارات التي تعدت مئة غارة على القطاع استهدف بعضها عدة مقار لحماس (11) يزعم جيش الاحتلال أنها تستخدم لاجتماعات مخابرات المقاومة، فيما استهدفت غارة منها على الأقل رئيس المكتب السياسي للحركة "إسماعيل هنية".
ويعد استهداف مكتب هنية وسيلة للتحايل على الإقدام على ضربة عسكرية شاملة للقطاع، ففي حين أن عملية شاملة قد تكلف جيش الاحتلال كثيرا من الخسائر المادية وفي الأرواح، فإن استهداف قادة المقاومة سعيا للقضاء على أهداف رفيعة المستوى (12) قد يحفظ ماء وجه إسرائيل ويرد لرئيس الوزراء الحالي الكثير من شعبيته في الداخل، دون المخاطرة بتحمل التكاليف الشعبية لحرب مدمرة.
وحتى هذه اللحظة، لم تتوقف الغارات الجوية على قطاع غزة، حتى مع إعلان الوساطة المصرية-القطرية برعاية الأمم المتحدة وصولها لهدنة بين حماس وجيش الاحتلال، هدنة يبدو أنها لم تمنع إسرائيل من الاستمرار في حشد القوات على حدود القطاع دون أن تعلن عن نيتها من هذا الحشد، حشد تقابله استعدادات مضادة داخل حدود القطاع وبين فصائل المقاومة تجهزا لأي احتمال ممكن بالغزو أو بالقصف أو بعمليات أخرى مختلفة داخل غزة أو على حدودها.
اضف تعقيب