لا اعتقد ان احدا حول العالم من المتهمين بقضايا الشرق الاوسط، لم يتابع بدهشة وربما بصدمة ايضا كَمَّ الانحطاط والعمى الأيدولوجي والتشظي الاجتماعي العميق الذي يعاني منه المجتمع الاسرائيلي، والذي برز في ابشع صوره في مظاهرة اليمين الاسرائيلي الداعم ل نتنياهو الذي يواجه مصيرا قد لا يكون اقل سوادا من زعماء اسرائيليين وجدوا انفسهم من وراء قضبان السجن ومزلاجه بسبب ملفات فساد لاحقتها اجهزة اعلام وتحقيق وقضاء لا ترحم صغيرا ولا كبيرا يقع تحت سكين المساءلة والمحاسبة..
قد لا يكون مستغربا ان تخرج الآلاف دعما لزعيمها في مواجهة ما يعتقدون انه مؤامرة مبيتة ضده وإن جاءت من اعلى جهات التحقيق والقضاء، لكن الذي صدم الكثير من المراقبين والمحللين طوفان الاحقاد والمغالاة في دعم شخصية سياسية تواجه لوائح اتهام في ثلاثة ملفات فساد خطيرة من جهة، وعمق التناقضات التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي، وكَمِّ الكراهية والاحقاد المتأصله فيما بين شرائحه المختلفة، والتي تجتاح قطاعات واسعة فيه الى درجة يستغرب لها الانسان العادي ناهيك عن المختص، والتي تشير كلها الى ان استمرار اسرائيل في الوجود اشبه ب "المعجزة!!" في ظل هذا الانهيار الداخلي غير المسبوق..
في المجتمعات المتعافية والطبيعية وعيا وسياسةً، لا يمكن ان تجد فيها ظاهرة كالتي طفت على السطح بكل بشاعتها في مظاهرة الدعم لنتنياهو وذلك من عدة نواحي.. اولا، الهجمة التي تجاوزت كل الحدود المعقولة في دولة تدعي انها دولة قانون، في التهجم على المستشار القضائي للحكومة والنائب العام ومسؤولة ملف التحقيق مع نتنياهو، والذين اتهمهم الاخير ومؤيدوه بالتخطيط ل "انقلاب" ضده لأسباب سياسية، متجاهلين تماما الادلة والبينات التي ساقها المستشار القضائي في بيانه الخاص حول الموضوع، ونشره لتفاصيل لوائح الاتهام التي اصبحت في متناول الجميع.. ثانيا، دعوة المتظاهرين الى محاكمة من يقفون وراء لوائح الاتهام ميدانيا، اقتربت كثيرا من حدود الدعوة الى استباحة دمائهم وتعليقهم في الميادين.. ثالثا، الهجمة الشرسة على وسائل الاعلام والصحفيين الذي حضروا لتغطية وقائع المظاهرة، واتهامهم ب "اليسارية" واستهداف نتنياهو شخصيا لأسباب سياسية، وانحيازهم لمنافسيه من احزاب المركز واليسار، والتي وصلت هي ايضا الى حد الاعتداء الجسدي واللفظي الشنيع.. رابعا، وقوف اقطاب حزب الليكود على منصة الخطابة في سباق محموم لتأجيج نار الصراع المحتدم الى درجة لا تستطيع معها ان تفرق بين خطابٍ سياسيٍّ من المفروض ان يكون متزنا ومعتدلا ومتوازنا، وبين خطاب "الدهماء" من المتظاهرين الذي جاءوا الى موقع المظاهرة من قاع المجتمع الاسرائيلي السحيق اجتماعيا وثقافيا وتربويا.. خامسا، توقع المراقبون امام هذه المظاهرة التي داست بحذائها الثقيل كل ما تتفاخر به اسرائيل من قيم ديموقراطية زائفة، ان يخرج نتنياهو منددا ورافضا بشكل لا يقبل التأويل ممارسات المتظاهرين، الا انه فاجأ الجميع ببيان مقتضب ظهر فيه منحازا بشكل سافر الى المتظاهرين المؤدين له، مع دعوته على استحياء الى عدم اللجوء الى العنف اللفظي او الجسدي في مواجهته لقوى "الظلام" التي تسعى لإسقاطه!!!.. سادسا، اتهام المتظاهرين لعدد من زعماء الليكود وعلى رأسهم المتطرف جدعون ساعر ب "الخيانة" و "نكران الجميل" لمجرد انه اعلن عن مطالبته ب انتخابات سريعة لرئاسة الحزب، وانه سينافس نتنياهو على المنصب، مشيرا الى ان الاخير فشل في اقامة الحكومة لمرتين، وانه يُفَضَّلُ له ولحزبه ان يتنحى من اجل ان يتفرغ لمعركة "تطهير" اسمه وسمعته مما التصق بها من تهم على حد قول ساعر.. سابعا، بحثت وانا اتابع التقارير الصحفية التي غطت المظاهرة، في وجوه من تصدروا مشهد التهجم والشتم والاعتداء الجسدي على الصحفيين، ومن ملأوا الساحات صخبا واسفافا، فلم أر فيهم تقريبا وجها "اشكنازيا" الا نادرا.. كانت الأغلبية الساحقة من “الشرقيين".. ظهر ذلك واضحا ومستفزا للعيون والقلوب.. اما "الأشكناز" فكانوا هنالك على المنصة ببدلاتهم الأنيقة، وربطات عنقهم الرشيقة، وعطرهم الفواح.. اما ساحة المواجهة فتركوها ل "العبيد" من ذوي البشرة الداكنة، الذين اختاروا لأنفسهم ان يكونوا الوقود لماكينة "اسيادهم" الاشكناز، يقومون نيابة عنهم بكل الاعمال "الوسخة" و " السوداء"..
سألت نفسي وانا اتابع مشاهد المظاهرة المقززة لكل انسان يحمل الحد الادنى من العقل والنفس السويين، ان كان هذا اسلوب هؤلاء في التعامل فيما بينهم، فكيف هو حالهم ان كان خصمهم عربي فلسطيني هنا في اسرائيل او هناك في الاراضي المحتلة؟!! وَلِمَ يرضى "الشرقيون" ان يكونوا المطايا لقطعان الاشكناز الذين ما انصفوهم يوما، فيشكلون النسبة الاعلى من مصوتيهم في اية انتخابات، والمتصدرين للدفاع عنهم في الميادين في وجه منافسيهم او في وجه العرب سكان البلاد الاصليين، الذين يلتقون معهم في "شرقيتهم" ولغتهم وثقافتهم على اقل تقدير؟!!
الاغرب من ذلك كله، انه في الوقت الذي يمكن لتهمٍ اقل من التهم الموجهة لنتنياهو ان تسقط زعماء أكبر الدول في العالم، وقد حدث ذلك قديما وحديثا، فان نتائج استطلاعات الرأي التي نشرت في الفترة الاخيرة بعد تقديم لوائح الاتهام ضد نتنياهو، تشير الى ان غالبية الإسرائيليين ما زالوا متمسكين به، ومؤدين له في وجه التهم من جهة، وفي وجه من "تجرأوا" وخرجوا في وجهه من حزب الليكود من الجهة الأخرى..
سياسيا، الصورة أكثر قذارة بكل المعايير.. نجاح نتنياهو في ربط مصير احزاب اليمين الديني ك "شاس" و "يهدوت هتوراه"، واليمين القومي كاتحاد احزاب اليمين، بمصيره الشخصي ما زال امرا يحير الحلبة السياسية في اسرائيل! ان كان منطقيا ان تظل احزاب اليمين القومي مرتبطين بنتنياهو حتى آخر لحظة على اعتبار انهم كانوا يمثلون الحكومة الحقيقية داخل حكومته، واصحاب القرار في كل ما يتعلق بأجنداتهم الاستعمارية التوسعية والرافضة لأي حل مع الفلسطينيين، فليس هنالك من منطق في ارتباط احزاب اليمين المتدين الاصولي بهذا الشكل غير المسبوق بنتنياهو رغم ما فشله في تشكيل الحكومة، وما يلاحقه من ملفات فساد جنائية قد تصل به الى السجن، خصوصا وان هذه الاحزاب كانت لها تجربتها مع حزب العمل في حقبة "رابين"، وحتى مع حزب كاديما في حقبة "شارون" و "أولمرت"، وقد حققت هذه الاحزاب نجاحات كبيرة خدمة لجمهورها في تلك الفترات!
صحيح ان نتنياهو حقق على المستوى السياسي الداخلي ما لم يحققه رئيس وزراء سابق من حيث مدة بقائه في مقر رؤساء حكومات اسرائيل.. وصحيح انه نجح الى حد بعيد في فرض اجندته المعادية للسلام والقضاء تماما على حلم الاستقلال الفلسطيني خصوصا في فترة الرئيس الامريكي الحالي ترامب، ولكن ليس فقط.. وصحيح انه نجح في اختراق العالم العربي وبناء علاقات مع الكثير من دوله في الخليج وغيره من غير ان يدفع ثمنا سياسيا مهما كان نوعه.. وصحيح انه نجح في تمزيق الصف الفلسطيني، وتحويل السلطة الفلسطينية الى وكيلٍ للاحتلال لا يسمح بتحركها الا بقدر ما تخدم اجندته ومشاريعه، وتحويل احتلاله لفلسطين الى اقل الاحتلالات تكلفة في تاريخ الصراعات من محتلين ومن يعيشون تحت الاحتلال.. وصحيح اخيرا ان نتنياهو حقق قفزات نوعية في المجال الاقتصادي والأمني في إسرائيل.. الا ان ذلك كله لم يشفع له حينما وقع تحت سكين المساءلة والمحاسبة والمحاكمة.
لا أدرى ما الذي يتوقعه احزاب اليمين المتدين الاصولي (الحاريدي)، من استمرار التمسك بحصان أصبح مشلولا تماما وان ما زال يحاول التظاهر بال حياة .. يبدو ان اسرائيل تعيش مرحلة فقدت فيها ما كانت تتفاخر به على غيرها دائما، واصبحت ب "فضل" نتنياهو واحدة من اسوأ "دول الموز" المعروفة في العالم..
ما من شك ان اسرائيل تعيش مرحلة انحطاط داخلي على المستويات القيمي والسياسي والتنظيمي، قد يشكل خطوة متقدمة على طريق انهيارها، وما بقي الا ان تهب "ريح" من مكان ما تقوضها تماما..
من حقنا كمواطنين عرب فلسطينيين نعيش في وطننا، ان نساهم في اسقاط نتنياهو.. لست متأكدا ابدا اننا بإسقاطه - ان حصل ذلك فعلا - يمكننا أن نسقط ايديولوجيته، خصوصا وان منافسيه على كرسي رئيس الوزراء ليسوا اقل منه تطرفا رغم ما يتظاهرون به من اعتدال مزيف.. لكننا مع ذلك، لا بد ان نسعى لاقتلاع شجرة نتنياهو والقائها في نار النسيان بسبب ما ارتكبه من جرائم ضد شعبنا الفلسطيني، وما مارسه من عدوان على وجودنا، وانتهاك سافر لأبسط حقوقنا كمواطنين أصلانيين في ارضنا.. الظروف التي تمر بها اسرائيل تعتبر فرصة ذهبية لنقوم بدور أكثر تأثيرا قدر المستطاع، للمساهمة في تحسين أوضاعنا وتحسين ظروف حياتنا..
لكننا نعي تماما أن معركتنا بعد حقبة نتنياهو لن تكون سهلة، فالطريق ما زال طويلا، ولا بد ان نعد لمعركتنا القادمة عدتها..
ابراهيم بدالله صرصور- الرئيس السابق للحركة الاسلامية في الداخل الفلسطيني
اضف تعقيب