المبروك – قصّة قصيرة بقلم الأستاذ مفلح أبو جابر
" الله يرحمك يا مبروك" ...
قالها بصمت، وسرعان ما انفجرت عيونه ببكاء أشبه بالهمس، وانسابت الدموع حتّى تدلّت من على ذقنه وسقطت تعانق التراب بكلّ حرارة ... هنا، حيث الحدّ الفاصل بين عبث الدنيا وحقيقة الآخرة، هنا حيث لا فروقات بين البشر، جلس منقطعًا بين القبور يراقب ذلك الماضي القريب البعيد ..
"رحمك الله أيّها الرجل الطيّب".
أين هي تلك الأيّام الجميلة الوادعة .. ما أبسطها .. ما أطهرها ..!!
ثمّ أجال النظر وهو يعود عبر ذلك الشارع القديم .. فلا يرى غير بيوتٍ جديدة، بُنيت على طراز حديث.
ما أكبرك أيّها الشارع!..
قبل عَقد ونيّف من الزمان فقط، كانت هذه البقعة تفيض بالحياة .. الأطفال يلعبون ويملأون هذا المكان .. الرجال يجتمعون في ساحة المسجد منذ ساعات المغيب إلى ما بعد صلاة العشاء .. والنساء ينتشرن عبر ذاك السهل الرحب معظم ساعات النهار يعملن في الزراعة مثل أسراب النحل دون كلل أو ملل.
ما أقدمك أيّها الشارع ! .. لقد احتضنتَ كلّ تاريخنا .. ذكرياتنا وماضينا. هناك حيث المدخل الغربيّ للبلدة يمتدّ هذا المارد عابرًا السهل الواسع منطلقًا نحو تلك الهضبة الصغيرة ليعانقها بكلّ محبّة وشغف، ثمّ يلتوي بعنقه يسارًا متسلّقًا ذاك الجبل الرابض بجسده المتهالك هناك في الأعلى، فوق البلدة، كأنّه حارس قد سخّره الله دليلًا يحفظ لها تاريخها وعروبتها.
وجلس على مقعد بجانب الطريق، فأشعل سيجارة وأخرج هاتفه النقّال يتأمّله .. لا صوت سوى هدير المركبات المزعجة يشتّت صفاء الذكريات ويلوّث قدسيّة التقاء الروح بالمكان.
يا لسخرية التحضّر .. حياة خالية من كلّ معانيها .. لا شيء فيها غير ضجيجها وصَخَبها .. بيوت صمّاء وشوارع سوداء.
هناك في الجانب الآخر من الطريق ترقد حديقة صغيرة، ظاهرها يوحي بالجمال وباطنها قد سَرَت فيه كآبة الوحدة ودبّت في جنباته علامات الكهولة .. حديقة خالية من كلّ شيء سوى بقايا منشآت كانت ذات يوم عامرةً بضحكات الأطفال وسعادتهم.
رحمك الله أيّها المبروك .. أفتقدك الآن بكلّ ما فيك .. أفتقد كلّ لحظة كنت فيها معنا تلاعبنا وتركض وراءنا، فنفرّ منك مستهزئين بحركاتك البهلوانيّة، ساخرين منك ومن ثيابك الرثّة الممزّقة .. أتذكرُ أيّها الرجل الطيّب ! أتذكرُ حين كنّا نرشقك بالحجارة بعد أن نملَّ من اللعب معك، فتهرب مختبأً هناك في أسفل الشارع خلف الشجرة الكبيرة .. ثمّ لا ندري أين تختفي لنجدك في صبيحة اليوم التالي في انتظارنا .. لم تخلف يومًا موعدك، لم تخلف.
ارقد بسلام وطمأنينة يا صديقي .. بل يا سيّدي، فقد مات كلّ شيء في هذا الحاضر، وبقيت روحك الطاهرة الطيّبة ترفرف فوق هذا الشارع الحزين باحثةً عن أطفال قدماء يُعيدون إليه نبض الحياة من جديد ..
اضف تعقيب