أسواق المال في العالم تكتسي باللون الأخضر الساطع
كانت افتتاحية سنة 2023 عاصفة، حيث سجّلت مؤشرات الأسهم الرئيسية في العالم ارتفاعات حادة، خصوصا بعد الانخفاض الشديد الذي سجّلته المؤشرات سنة 2022. وقد تمثّل السبب الأساسي لهذا الانخفاض في الزيادات الهائلة في أسعار الفوائد في العالم، بسبب محاولات البنوك المركزية في مواجهة انفجار بركان التضخّم في الأسواق. وينبع السبب الرئيسي للتضخم من الفائض الكبير في الطلب في نهاية أزمة الكورونا، والاضطرابات الكبيرة في سلاسل التوريد، بسبب العدوى، وأسعار الطاقة التي ارتفعت نتيجة الحرب المستمرة بين كلّ من روسيا وأوكرانيا.
إن بنك الاحتياط الفيدرالي الذي كان يميل إلى الاعتقاد في سنة 2021 بأن علامات ظهور التضخم ليست سوى حدث مؤقت وعابر، لم يشرع في التعامل مع كبح التضخّم إلا في شهر شباط (فبراير) 2022. حيث بدأ آنذاك في الدوس على دواسة السرعة بوتيرة هائلة، وتحول إلى سياسات تقييدية تتمثل في تشديد السياسة الرقابية ورفع الفوائد بوتيرة سريعة إلى حد بلغت فيه نسبة هذه الفوائد 4.75%، وهو المستوى الأعلى منذ سنة 2007. وقد أدّى هذا التأخير في الاستجابة إلى تكبيد خسائر فادحة حين ارتفع التضخم بصورة كبيرة وسجّل رقما قياسيا لم يسجّل منذ 40 عاما، في شهر حزيران (يونيو) 2022.
من جهته، لم يبق سوق رأس المال متفرجا أمام هذا التضخم العالمي، إذ أنه في ذات الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار فائدة البنوك المركزية في العالم بصورة شديدة، بدأت في تسعير سيناريوهات مرعبة تتمثل في التباطؤ الكبير في النمو، على التوازي مع التضخم المتفشي. وقد انخفضت مؤشرات الأسهم الرئيسية بصورة حادة سنة 2022 إلى حد وصل فيه الانخفاض إلى نحو 33% في Nasdaq، فيما سجل مؤشر S&P 500 انخفاضا بلغ نحو 19.5% ، أما مؤشر DAX الألماني فقد خسر 12.4% من قيمته، وانخفض مؤشر FTSEالصيني بقيمة 21.6%.
لقد اصطبغ شهر حزيران (يونيو) باللون الأخضر الفاقع، حين أغلقت المؤشرات الرائدة في العالم على ارتفاعات مذهلة. نشير هنا إلى مؤشر Nasdaq100 الذي قام بمسح نحو ثلث الانخفاض المسجل سنة 2022، حيث سجل معطيات مذهلة تمثلت في ارتفاع بلغ 10.6%، فيما ارتفع مؤشر S&P 500 بـ 6.2%، أما مؤشر DAX الألماني فقد قفز إلى 8.6%، فيما تمكن مؤشر FTSEالصيني من استرداد نحو نصف الانخفاض المسجل في 2022 بقفزة بلغت 11.7%.
بنبع هذا الانتعاش الذي عمّ الأسواق، والذي انعكس في قفزة مؤشرات كانون ثاني (يناير)، من اعتدال التضخم في العالم، خصوصا في الولايات المتحدة، حيث انخفضت وتيرة ارتفاع التضخم السنوية من رقمها القياسي الذي سجّل في الماضي 9.1%، واستقرّت عند 6.5%. بينما في الوقت ذاته، كان هناك تأثير لاعتدال الطلبات نتيجة للسياسات النقدية المقيدة للاحتياطي الفدرالي. وعلى ذات المنوال، وبالتوازي مع ذلك، بات بالإمكان الإحساس بالانخفاض في تضخم البضائع في الوقت الذي تشير فيه أسعار الطاقة والمواد الخام إلى انخفاض تمثل في وتيرة سنوية تبلغ نحو 4.7%. وقد كانت قمة هذا التوجه في شهر آذار (مارس) 2022، حينما أشار تضخم البضائع إلى ارتفاع بلغ نحو 14%. وإلى هذا كلّه تضاف دفعة إيجابية إضافية للسوق، جاءت نتيجة التحسن الواضح في حالة سلاسل التوريد التي كان ارتباكها واحدا من العوامل الأساسية التي أذكت سرعة التضخم في أرجاء العالم، كما أسلفنا.
لقد اصطدمت التنبؤات المرعبة بانكماش في الاقتصاد العالمي المترافقة مع ارتفاع معدلات التضخم، بواقع يتمثل في معطيات مشجعة من هبوط خفيف في السوق الأمريكي في الوقت الذي ينخفض فيه التضخم. بينما لا يزال سوق العمل ثابتا، بل وبدأ انخفاض يطرأ على البطالة. هذا الركود الذي كان يُنظر إليه على أنّه قضاء لا مفرّ منه في السوق الأمريكية، تم إقصاؤه جانبا في الوقت الحالي. ويتوقع سوق المال رفعا إضافيا واحدا للفائدة، والشروع في تطبيق مسار تخفيض سعر الفائدة لدى اقتراب العام من نهايته بعد التقارب المتوقع للتضخم إلى حد 2% على أساس سنوي.
تشير البيانات في أوروبا أيضا إلى بيئة اقتصادية قوية، تتناقض فيها التوقعات بانكماش الاقتصاد مع المعطيات التي تشير إلى مجرد التباطؤ. تمثل في: في اقتصاد مع منسوب بطالة ظل منخفضا؛ وشتاء دافئ نسبيا بدد المخاوف من حدوث كارثة في أسعار الطاقة، وأدى إلى انخفاض حاد في أسعار الغاز؛ وارتفاع الدخل المتاح، والاستهلاك الخاص.
أما الصين، التي تخلت بصورة فورية عن استراتيجية "صفر كوفيد" (Zero-COVID)التي كبّدتها خسائر اقتصادية باهظة، فقد رفعت قيود الكورونا المشددة، وفتحت حدودها وحرية تنقل المواطنين. وهكذا قامت بتحريك عجلات الاقتصاد المتعثرة، وبات من المرتقب أن تظهر نموا عاليا ناجما بصورة أساسية عن الارتفاع الكبير في الاستهلاك الفردي، ورفع وتائر الإنتاج. تنضم الصين أيضا إلى هذا الشعور بالتفاؤل، وبالتالي فإن مؤشرات أسهمها تستجيب مع ذلك التفاؤل.
ظل مؤشر TA 35الإسرائيلي متخلفا كثيرا في شهر كانون ثاني (يناير) مع عوائد بلغت الصفر، ولم ينعم المؤشر الإسرائيل بالمشاركة في المهرجان العالمي الأخضر الذي احتفت به سائر المؤشرات. يمكن أن نعزي هذا المعطى الكئيب بصورة أساسية نتيجة الضعف في النشاط الاقتصادي خصوصا في مجال التكنولوجيا، وهو مجال تضرر بصورة خاصة في دورة الأعمال الماضية. وتضاف إلى ذلك أسباب إضافية تتمثل في الحساسية المفرطة للمخاطر السياسية، والخشية من تأثير الإصلاح القضائي المزمع إقراره، على الاقتصاد الإسرائيلي. وقد حقق الاستثمار في مؤشرات الأسهم المحلية خلال السنوات الماضية عوائد فائضة عن الاستثمار، مقارنة بباقي المؤشرات الرائدة في العالم. وتشير تقديراتنا إلى أن تعمق الانشغال بالإصلاح القضائي المزمع، والموجات الارتدادية التي قد تخلقها هذه الخطوة، فإن علاوة المخاطرة في السوق المحلية قد تزداد بالمثل، وتؤثر على الاستثمار في السوق الإسرائيلي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا تزال هناك عوامل مهمة قد تلقي بظلالها على سوق الأسهم في عام 2023، ومنها: الخشية من تصاعد الحرب بين روسيا وأوكرانيا، التي قد تنتشر إلى مناطق أخرى، إلى جانب خطر حصول قفزة في أسعار السلع الأساسية. واستيقاظ الاقتصاد الصيني بصورة كبيرة، مما سيؤدي إلى استهلاكها للموارد ورفع أسعار البضائع بصورة كبيرة. من شأن الاستهلاك الفردي الذي يستند إلى سوق العمل المتين في الولايات المتحدة أن يغذي التضخم من جانب الطلب، على الرغم من أسعار الفائدة المرتفعة، إلى جانب الحرب التجارية بين أكبر اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة) وبين الاقتصاد الصيني الذي يكاد يناهزه. والتوترات الجيوسياسية التي من شأنها أن تؤدي إلى نشوب حرب، مع تخلي إيران عن المفاوضات، في وقت يبدو فيه أنها تتجه نحو تسريع برنامجها النووي.
لقد افتتح شهر كانون الثاني (يناير) بعاصفة، ولكن لن يمكننا تجاهل العوامل التي من شأنها أن تكبح أسواق الأسهم في العالم: فبيئة أسعار الفائدة الحادة طويلة الأجل تلحق الأضرار بربحية العديد من الشركات التي تعتمد على الديون. والأسواق تتوقع رفعا إضافيا ومعتدلا للفوائد، بل وسيناريو خفض الفائدة على مشارف نهاية العام. تضخم جامح، أو فشل التوقعات المتجسدة في الأسواق، من شأنها أن تمثل عائقا وأن تعود لتصبغ باللون الأحمر سوق الأسهم. وفي تقديراتنا أنه من المتوقع أن يكون مستوى التقلب مرتفعا في سنة 2023.
قام بكتابة هذا المسح: دانيال جورجي، مدير مكتب الأوراق المالية الإسرائيلية، بنك مركنتيل
اضف تعقيب